من 2015 إلى 2017 نأيٌ بالنفس على رمال متحرّكة: نقولا ناصيف
بالتأكيد سيصدر عن حكومة الرئيس سعد الحريري بيان النأي بالنفس. بيد انه لن يقدّم الكثير لها سوى وضعها على طريق العودة الى الالتئام وتعويم برامجها وخططها. سوى ذلك كأن شيئاً لم يحصل منذ 4 تشرين الثاني، ما خلا محنة رئيسها
انطباعان يُفصح عنهما بعض العاملين على وضع بيان النأي بالنفس، المتوقع صدوره عن مجلس الوزراء: اولهما انه لن يكون في مستوى «الصدمة الايجابية» التي وصف فيها الرئيس سعد الحريري استقالته، في المقابلة التلفزيونية في 12 تشرين الثاني.
ثانيهما ان البيان يحل مشكلة اللبنانيين في الداخل، لا مشكلة لبنان مع الخارج. لا ينفي هؤلاء ما يتوخاه البيان، وهو تقديم تطمينات ابتعاد لبنان عن صراعات المنطقة، من دون ان يحمل اياً من الافرقاء المنضوين في تلك الصراعات على التخلي عن ادوارهم المعلنة والمضمرة. بذلك ينتهي بيان مجلس الوزراء، باجماع الكتل الممثلة فيه، الى صيغة انشائية تؤكد المؤكد في البيان الوزاري، الى شيء من تفاصيل اضافية.
الاصح في ما يعنيه هؤلاء، ايجاد المخرج الملائم لتعويم حكومة الحريري اكثر منها عودته عن استقالة غير موجودة في الاصل سوى على شاشة الرياض. لم يتقدّم بها رسمياً، ولم يتسلمها رئيس الجمهورية ميشال عون تالياً كي تتحوّل الى مستند يبني موقفه عليها. منذ اعلن الحريري تريثه في 22 تشرين الثاني، دفن الاستقالة، وبات المطلوب ايجاد مخرج، ليس لرئيس حكومة غير مستقيل في الواقع، بل للحريري الذي يحتاج الى اعادة الاعتبار اليه بعد المحنة القاسية التي اجتازها في المملكة.
منذ استقالة الرياض في 4 تشرين الثاني الى الامس القريب، في مرحلة التحضير لمسودة بيان النأي بالنفس، تواترت ردود فعل في اكثر من اتجاه، تحدثت عن انهيار التسوية السياسية التي قادت عون الى قصر بعبدا، والحريري الى السرايا. بعض التفسيرات التي أُعطيت لما قيل انه انهيار للتسوية تلك، الايحاء بسقوط عهد عون تارة، واقصاء الحريري عن منصبه طوراً. قيل ايضاً بحكومة لا يتمثّل فيها حزب الله. سرعان ما افضى تريث الحريري الى تأكيد ثلاثة معطيات على الاقل: ثقته برئيس الجمهورية وحاجته الى الالتصاق به، تمسكه بوجوده على رأس السلطة الاجرائية، الابقاء على الصيغة الحالية لحكومته.
عندما أُبرمت التسوية السياسية في ايلول 2016، بين الوزير جبران باسيل ومدير مكتب الحريري ابن عمته نادر الحريري، كانت نسخة منقحة عن تلك التي ابرمها رئيس الحكومة مع النائب سليمان فرنجيه في منزل جيلبير الشاغوري في باريس في تشرين الثاني 2015. كلتا التسويتين حملتا بضعة اسئلة من الحريري الى محدثيه الاثنين تناولت سوريا حصراً، ولم تكن حرب اليمن في مثل ما اضحت عليه في الاشهر الاخيرة. احد تلك الاسئلة هل يزور الرئيس المقبل دمشق؟ هل يلبي دعوة لزيارتها اذا تلقاها من الرئيس بشار الاسد؟ يومذاك كان جواب فرنجيه ان علاقته المتينة بالاسد تتيح للآخرين الاستفادة منها، وهو صديقه، وعلى تواصل دائم به، وسيتصرّف على نحو لا يحرج الحريري المنتظر ان يكون حينذاك رئيساً للحكومة.
لم يأتِ مضمونا تسويتي 2015 و2016 على اي ذكر للنأي بالنفس، وبدا الشغل الشاغل للحريري سوريا بالذات، وتجنيبه اي مساءلة من حليفته، الرياض، حيال موقع لبنان من الحرب السورية، وكانت هذه في ذروة استعارها عام 2016 وحزب الله يلقي بثقله كاملاً فيها. لم يضع الحريري في طريق فرنجيه، ثم عون في ما بعد، اي شروط تعجيزية سوى استعجاله الوصول الى تسوية تقوده الى رئاسة الحكومة. وهو ما أذِنَ انتقاله في اشهر قليلة من خيار زغرتا الى خيار الرابية، في سبيل الحصول على ما توخاه في الاصل.
بالتأكيد لا يسع احد ان يزعم انه ملمّ بتفاهم باسيل ــــ الحريري بتفاصيله، وقد اضيفت اليه بنود استجدت ما بين عامي 2016 و2017. في التسويتين لم يكن حزب الله الطرف الثالث في التفاوض، ولا أُدخِل انخراطه في الحرب السورية ــ وبالتأكيد خروجه منها ــ في صلبه. لم يكن كذلك في الاشتباك المباشر مع السعودية، ولم تكن قد صنفته «ارهابياً». عُدَّ انتخاب عون في ذاته الضمان الذي يطمئن الحزب، بعدما كان اطلع من قبل على محضر لقاء باريس 2016 الذي دوّنه الوزير السابق روني عريجي المشارك فيه. بدوره الوزير السابق يوسف سعادة حمل محضر باريس الى الرئيس السوري كي يطلع، ليس على اجوبة فرنجيه، بل ايضاً على اسئلة الحريري.
في اي من بنود التسويتين، لم يؤتَ على ذكر النأي بالنفس، ولا كانت شرط الحريري للموافقة على ترشيح فرنجيه اولاً، ثم عون. بدا المقصود تفادي اي تواصل مع نظام الاسد، وفي حسبان الحريري ان مرشحه، الاول ثم الثاني، اما صديق قديم للرئيس السوري او صديق جديد. في الحالين هو صديق موثوق به ومسموع الكلمة يجمع بينهما خيط عريض هو الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. حينذاك، في المرة الاولى كما الثانية، لم يكن خافياً ان السعودية طرف في الحرب السورية شأن حزب الله. كلاهما يعترف بوجود الآخر على ارض القتال ضد النظام او معه.
مع ذلك عندما رشح الحريري عون للرئاسة، من بيت الوسط في 20 تشرين الاول 2016، تحدّث عن «اننا (وعون) وصلنا الى اتفاق على تحييد دولتنا، الدولة اللبنانية، بالكامل عن الازمة في سوريا. هذه ازمة نريد حماية بلدنا منها، وعزل دولتنا عنها، حتى اذا انتهت الازمة واتفق السوريون على نظامهم وبلدهم ودولتهم، نعود إلى علاقات طبيعية معها». في خطاب القسم في 31 تشرين الاول ذهب الرئيس الى ابعد من ذلك بتأكيده ان لبنان في منأى عن نيران المنطقة، وابتعاده عن الصراعات العربية، قائلاً «لبنان السائر بين الالغام لا يزال في منأى عن النيران المشتعلة حوله في المنطقة. يبقى في طليعة اولوياتنا منع انتقال اي شرارة اليه. من هنا ضرورة ابتعاده عن الصراعات الخارجية (…)». ثم اتى البيان الوزاري لحكومة الحريري في مجلس النواب في 28 كانون الاول يكرّس ما قاله الرئيس: «تلتزم الحكومة ما جاء في خطاب القسم لفخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من ان لبنان السائر بين الالغام لا يزال في منأى عن النار المشتعلة حوله في المنطقة، بفضل وحدة موقف الشعب اللبناني وتمسّكه بسلمه الاهلي. من هنا ضرورة ابتعاد لبنان عن الصراعات الخارجية ملتزمين احترام ميثاق جامعة الدول العربية (…)».
في الوثائق الثلاث تلك التي شكلت ولا تزال مرجعيات التسوية السياسية ــــ السرّية بعد في بعض بنودها ــــ دارت المواقف من حول الموقع الرسمي للبنان وسياسته الخارجية من حرب سوريا، دونما الاقتراب من المفهوم المستجد، المطلوب في بيان مجلس الوزراء، وهو موقعه من الصراعات الاقليمية. وتحديداً من المملكة وحرب اليمن دونما ادنى اهتمام ظاهر بما هو دائر في سوريا.
(الاخبار)