فنون التفاوض في اللاتفاوض: لبنان وسورية: ناصر قنديل
– شهد لبنان وسورية خلال أيّام محطات للعبة دبلوماسية من الطراز الرفيع، يمكن تسميتها بحرب العقول، بعد مواجهات عسكرية أفضت بحسم سريع متدحرج بوجه دويلة داعش المحمية بخلفية ضمنية من الثلاثي الأميركي السعودي «الإسرائيلي» الذي قال قادته علناً، إذا كان بديل داعش قوى محور المقاومة فليبقَ داعش. وهذه المواجهات يمكن تسميتها بحرب الإرادات، ومثلما انتهت حرب الإرادات بنصر واضح لمحور المقاومة، وخيبة شاملة لخصومه، عبّرت عن ذاتها بالقلق والذعر من المرحلة المقبلة، تنتهي أو تكاد الجولة الدبلوماسية أو حرب العقول بنصر مماثل، يسقط أكذوبة تصوير محور المقاومة مجرد متفوّق بخزان دماء مقاوميه وكأنه وهو يردّ الاعتبار لتفوّق الإنسان على النار في صناعة الحرب، متّهم بالاستهتار بحياة ناسه والتهوين من قيمة الإنسان، لتأتي حرب العقول وتقول، هو الإنسان بكليته هنا يقاوم إرادة وعقلاً فينتصر .
– في الحرب الدبلوماسية على المسار اللبناني، لعبت السعودية ورقة استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري بعد احتجازه، وراهنت أنّ هذه الاستقالة المنسّقة مع «إسرائيل» بدليل ترتيب محاولة اغتيال «الموساد» للنائب بهية الحريري بالتزامن مع الاستقالة، وتضمين السعوديين لبيان استقالة الحريري تذكيراً باغتيال الرئيس رفيق الحريري والخطر على الحريري نفسه كذريعة لعدم العودة إلى لبنان، وبالتنسيق مع واشنطن أيضاً كما كشفت «نيويورك تايمز» في ما نقلته عن الأزمة بين وزير الخارجية ريكس تيلرسون ومستشار الرئيس دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر على خلفية إخفاء الأخير المعلومات التي تتضمّن تفاهماته مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حول استقالة الحريري عن وزارة الخارجية. ورغم قوة الصدمة وقسوة بيان الاستقالة، والقلق من الفتنة، لم يرتبك لبنان، فرمى بوجه السعودية ورقة عنوانها عودة الحريري أولوية وبعد عودته نتحدّث، وخاضت السعودية حرب عشرة أيام لتبديد صورة الاحتجاز عن حال الحريري انتهت بفشل ذريع جعل من احتجازها رئيس حكومة دولة ذات سيادة، فضيحة دولية جعلت قضية السعودية بستر الفضيحة أهمّ من مواصلة اللعبة المدبّرة.
– الأوروبيون الراغبون بلعب ورقة عودة الحريري من موقع سياسي قريب من الخيارات المشتركة مع السعودية والأميركي و«الإسرائيلي» حول المقاومة وسلاحها ومكانة إيران في المنطقة، حاولوا مقايضة استعادة الحريري وإعادته بفرض مواقف سياسية على لبنان تستثمر مضمون الاستقالة. وفي المقابل بيع ستر الفضيحة للسعودية مقابل الشراكة في إدارة التسوية الجديدة وما بعدها، شجّع لبنان الأوروبيين على الشق الثاني من تطلعاتهم بنقل مرجعية الحريري من الرياض إلى القاهرة وباريس، لكنه ذكر الأوروبيين أنهم ليسوا فاعلي خير في إدارتهم لتعويم التسوية اللبنانية من دون شروط مسبقة، فهم أصحاب مصلحة عميقة في هذا الاستقرار، ولبنان يستضيف في ظلّ استقراره مليوناً ونصف مليون نازح سوري، سيدقون أبواب أوروبا مع أيّ اهتزاز في هذا الاستقرار. فتراجع الأوربيون ومضوا في الطريق يسجّلون ربح لبنان للجولة.
– لم يفاوض لبنان السعودية ولا «إسرائيل» ولا أميركا، لكنه ربح حربه الدبلوماسية معهم، في أصعب حرب عقول، وعلامة الربح الواضحة أبعد من نهاية أزمة الاستقالة. فكلام الرئيس الحريري لقناة فرنسية عن سلاح حزب الله غير المطروح على الطاولة، وعن تصديقه لكلام السيد حسن نصر الله حول عدم وجود مقاتلين للحزب في اليمن، وتأكيده الضمني لما تعرّض له في السعودية، واحتفاظه به لنفسه، كلها تأكيدات لربح الجولة، لكن التأكيد الأهمّ يظهر بكلام رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي قاد حرب التفاوض بلا تفاوض، وهو يتحدث لصحيفة إيطالية عشية زيارته لروما، واصفاً معارك حزب الله خارج لبنان بوجه الإرهاب كحرب مشروعة، ومؤكداً أنه حزب مقاومة شعبية سيعود إلى بلده عندما يُنجز المهمة، وهو كلام لم يقل مثله أو بوضوحه، مراعاة للحريري وللسعودية، قبل هذه الأزمة.
– على المسار السوري، ربح الجيش السوري حروب الميدان كلها، وصارت يده مبسوطة فوق أغلب الأرض السورية، وجاء دور التفاوض، ومن وراء وفد هيئة الرياض تقف السعودية وأميركا و«إسرائيل»، الثلاثي الذي قدّم الرعاية لداعش لكسر الإرادة السورية في الميدان، وفي حرب العقول، كانت اللعبة ببيان ناري يشبه استقالة الحريري يصدر عن مؤتمر الرياض، ثم يد ناعمة بوفد موحّد للتفاوض يضمّ منصتي القاهرة وموسكو، والحديث عن تفاوض من دون شروط مسبقة، أملاً بتحييد روسيا عن دعم الموقف السوري وربح جولة حرب العقول. فكان الردّ بلعب ورقة مقاطعة مؤقتة للتفاوض، ثم التفاوض على المشاركة، ثم وضع شروط لهذه المشاركة، لأنّ بيان الرياض يعطّل التفاوض، فيحصل الوفد السوري على التزام قبل السفر لمجرد إنقاذ الجولة، بتجاهل بيان الرياض وعدم عقد مفاوضات مباشرة، وبعد الوصول حصل الوفد السوري على التزامين، لا تمديد للمفاوضات، ولا دخول في تفاوض مباشر، ولا تفاوض يتخطّى الحصول على أجوبة الوفد المعارض على أسئلة وضعها الوفد السوري الرسمي بعهدة المبعوث السابق الأخضر الإيراهيمي ولا تزال بدون جواب، وتتصل برفض التدخلات الخارجية، والتعاون مع الجيش السوري في الحرب على الإرهاب، ومفهوم الاستقلال الوطني، والتمسك بوحدة الأراضي السورية.
– بموازاة لعبة الرهان على الوفد الموحّد لإغراء موسكو، سمعت موسكو ما يُريحها لجهة الدعوة للمزيد من الضغط ليتطابق تشكيل الوفد الموحّد مع مضمون القرار الأممي بتمثيل الأطياف المستثناة من الوفد والتي دعتها موسكو إلى سوتشي، وكلها أطراف من معارضة الداخل والمعارضة الوطنية، ويريح موسكو السعي لضمّها للوفد الموحد واعتباره ناقصاً من دونها، والمعادلة أنّ بعض الضغط حقق بعض المشاركة فمزيد من الضغط يحقق المزيد من المشاركة، وسمع الأميركيون مطالبة الروس بتوسيع المشاركة، فسارعوا يطلبون ضمّ الجماعات الكردية الممثلة بقوات سورية الديمقراطية للوفد المفاوض، وصار توسيع الوفد عبئاً بدلاً من أن يكون مكسباً، مثله مثل بيان الرياض.
– إنها حرب العقول يكسبها الذين كسبوا حرب الإرادات، والسبب بسيط، ليست الثكلى كالمستأجرة، فأهل القضية أحرار يحالفون أحراراً، وليسوا عبيداً مأمورين لعبيد مأمورين.