بيان التطمينات: ما يُعطى وما لا يُعطى: نقولا ناصيف
بدت المشاورات التي اجراها رئيس الجمهورية ميشال عون مع ممثلي كتل الحكومة اقرب في مشهدها الى الاستشارات النيابية الملزمة، وتشاوره في ختامها مع الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري أقرب الى مشهد تكليف، لكن لحكومة قائمة
لم تساور اياً من الافرقاء، منذ بيان التريث في 22 تشرين الثاني، ان البلاد في وارد الذهاب الى حكومة جديدة. جلّ ما يقتضي القيام به هو الخروج من مأزق ليس رئيسها سعد الحريري مَن أوقع نفسه، ولا البلاد، فيه. تالياً بات من السهولة بمكان توقّع التوصل الى مخرّج يعوّم الحكومة ورئيسها، ويحمّلها زخماً جديداً كأنها تبصر النور للمرة الاولى.
ما عنته جولة مشاورات قبل الظهر في قصر بعبدا بين الرئيس وزواره المستَفتين، هو الدوران حول سؤال واحد رئيسي: اين ينأى لبنان بنفسه واين لا يسعه ان يفعل؟
لم تكن صعبة الاجابة عن سؤال كهذا طرحه الرئيس، وهو يسأل كلاً من زوراه ــ وهم في غالبيتهم ممثلون في الحكومة ــ عن السبل التي يرونها مناسبة للخوض في النأي بالنفس. في حصيلة استنتاج فحوى الحوار بينه وبينهم ملاحظات منها:
1 ـــ لا يسع لبنان ان ينأي بنفسه عن سوريا، وعن إسرائيل. كلٌ لأسباب مختلفة في الجوهر والاساس، الا انهما متاخمان للحدود مع لبنان. لكل منهما موقعه في التأثير الداخلي ومقدرته على احداث الاضطراب وزعزعة الاستقرار. سوريا اولاً لأن ما يجري فيها وصلت تداعياته اليه، واسرائيل لأنها دولة عدوة ومعتدية.
النأي بالنفس متاح اكثر من اي وقت مضى شرط المعاملة بالمثل
2 ــــ يوم وصل الارهاب الآتي من الحرب السورية الى الحدود الشرقية، وتغلغل في عرسال وبلغ تأثيره الى طرابلس وصيدا من خلال نشوء خلايا ارهابية عملت على تهديد الامن في الداخل. ناهيك باعتداءات تسبّبت فيها في اكثر من منطقة منها الهجمات الانتحارية واستهداف الاهالي، تجعل لبنان معنياً مباشرة بالحؤول دون انتقال تداعيات الحرب هناك الى الداخل اللبناني.
3 ــــ من الواضح ان حزب الله مستعد لتقديم كل التطمينات التي يطلبها رئيس الحكومة من اجل استقرارها، من غير ان يعني ذلك ان ما يتخلى عنه الحزب له، هو ما تصرّ الرياض على انتزاعه منه. مسألة دقيقة في تقويم الحزب لما هو مطلوب منه، اذ يميز بين ما يريد ان يطمئن رئيس الحكومة اليه، وما لا يريده ان يكون مصدر طمأنة للمملكة. ولأن استقالة الحكومة ازمة افتعلتها الرياض، فإن عودة الحريري عنها ــــ ولم يكن هو السبّاق اليها ــــ تقتضي ان لا تكون بالشروط السعودية.
4 ــــ ارسل الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله اشارة اولى الى ان حزبه لا يقاتل في اليمن، الا انه متعاطف مع الحوثيين سياسياً واعلامياً، على نحو مطابق لتعاطف الحريري وحلفائه مع مناوئي نظام الرئيس بشار الاسد يدعمونهم سياسياً واعلامياً.
5 ــــ من الآن اضحى امكان التوصل الى سياسة نأي بالنفس متاحاً اكثر من اي وقت مضى، شرط المعاملة بالمثل: من الداخل الى الداخل، ومن الخارج الى الداخل وبالعكس. مغزى هذا الاحتمال ان ليس لحزب الله وقف حملاته الاعلامية على السعودية ما لم توقف هي بدورها حملاتها عليه واتهامه بـ«الارهاب». ما يصح على هذا القياس قول الحزب ايضاً ان العلاقة السياسية المميزة التي تجمع رئيس الحكومة بالسعودية والعائلة المالكة خصوصاً، تقابلها على قدم المساواة علاقة سياسية مميزة تجمع حزب الله بسوريا ورئيس النظام خصوصاً.
فحوى هذه المعطيات، داخل مشاورات قصر بعبدا وعلى هامشها، تفضي الى نتائج ايجابية ترتكز على الآتي:
ــــ لا احد يبحث عن حكومة جديدة، ولا حتماً عن رئيس لها في ظل الزعامة الحالية للحريري سياسياً وسنّياً. ناهيك بتعاونه مع رئيس الجمهورية لم يكن يتصوره ويتوقعه عندما رفض مراراً ترشيحه لرئاسة الجمهورية مذ وقع شغور 2014 الى تشرين الاول 2016. بل ليس في صفوف الحكومة، اقطاباً ووزراء، من يتحدّث عن حكومة مستقيلة، وانما عن حكومة عاملة لا يلتئم مجلس وزرائها جراء خلاف انفجر فجأة في وجه الجميع، من غير ان يفتعله احد منهم. لا حزب الله ولا حتماً الحريري. بذلك اضحى المطلوب تعويم السمعة السياسية لرئيسها اكثر منها تأكيد استمرارها الى موعد الانتخابات النيابية في ايار 2018.
ــــ قد لا تكون عبارة «النأي النفس» ستُستخدم في اي بيان يصدر عن مجلس الوزراء قريباً، كونها تعود الى الرئيس نجيب ميقاتي الذي ادرجها في البيان الوزاري لحكومته ما بين عامي 2011 و2014. حينما طُرحت امام لجنة البيان الوزاري للحكومة الحالية للحريري في كانون الاول 2016، قيل ان وزراء من بينهم الوزير جبران باسيل، عارضوا استخدام العبارة نفسها، وقرّ الرأي على اعتماد تلك التي اوردها رئيس الجمهورية في خطاب القسم.
ــــ من المتوقع التئام مجلس الوزراء للمرة الاولى، منذ استقالة الحريري في 4 تشرين الثاني، الاسبوع المقبل بعدما يكون رئيس الجمهورية قد عاد من ايطاليا، واجرى تشاوراً محدوداً حيال صيغة فقرة تتناول هذا الجانب من النأي بالنفس عن حروب المنطقة، على ان يرأس جلسة مجلس الوزراء ويصدر عنه بيان يؤكد ثابتة ان لبنان ينأى بنفسه عن الصراعات تلك وينصرف الى ضمان استقراريه السياسي والامني.
في الواقع، كل ما يجري اليوم هو البحث عن تلك الفقرة، الشوكة العالقة في حلق حكومة الحريري، قبل ان تستعيد دورة عملها وتُخرِج رئيسها من مأزق اوقعه الآخرون فيه.
(الاخبار)