أميركا وعيد الشكر: سردية عن الحصاد وإبادة السكان الأصليين د.منذر سليمان
احتفلت الحضارات البشرية المتعددة بمواسم الحصاد السنوية وتشابهت طقوسها عبر التاريخ إيذاناً بتجدد دورة الحياة. احتفالات مشابهة في القارة الشمالية من أميركا تجري وفق أجندة سياسية ترتبط بسردية متشابهة ومتباعدة زمنيا، بين أميركا وكندا، تخص ظروف الاستيلاء على أرض الغير وإبادة الأصل وفرض هوية الغزاة الجدد، فالتاريخ يكتبه الطرف المنتصر .
تحتل الولائم الدسمة على الديك الرومي (الحبش) مكان الصدارة في ما يعرف بعيد الشكر، مناسبة تحولت تقليداً سنوياً ولمرة واحدة لجمع الشمل العائلي المتشظي للأميركيين، وتكرست طقوساً للاحتفال “بعيد الشكر؛” كما يعرف في شطري أميركا الشمالية.
بيد أن النموذج الأميركي جنوباً تطور بسرعة مذهلة ليخدم العملية الرأسمالية بمراكمة الثروات عبر تعزيز الاستهلاك، كما يشهد عليه قرار الرئيس فرانكلين روزفلت (1938) بتعديل موعد الاحتفال عن موعده الأصلي، آخر يوم خميس من شهر نوفمبر، “لإطالة فترة التسوق والشراء” في مسعاه للتغلب على تداعيات الكساد العظيم عام 1929.
ومن ثم “أقر الكونغرس الأميركي بمجلسيه” رابع يوم خميس من شهر تشرين2/نوفمبر يوماً للاحتفال بعيد الشكر، ويعتبر عطلة وطنية “علمانية” لا ترتبط بمناسبة دينية محددة ولكن يتم تجييرها لتأخذ أبعاداً دينية – فمن سيتجرأ على نكران الشكر للباري عزّ وجلّ على نعمه. ودرجت العادة منذئذ على اعتباره بداية موسم إجازات يتزامن مع عيدي “الميلاد المجيد” ورأس السنة الجديدة؛ تستغله كبرى المصالح الإقتصادية في وفرة المعروض من البضائع والسلع والترويج “لتخفيضات كبيرة” عليها.
دشن الجنرال / الرئيس جورج واشنطن احتفالات موسم الحصاد امتداداً للاحتفال الأول الذي أقامه المستعمرون الجدد في منطقة “نيو إنجلاند،” عند وطأتهم القارة الجديدة، تشرين2 / نوفمبر 1621؛ وأصدر مرسوماً عام 1789 لتقنين الإحتفال بالمناسبة “للإقرار بالقدرة الإلهية والانصياع لإرادتها، والتعبير عن إمتنان البشر لتلك النعم ..” كما ورد في خطابه الموجه للأمة الوليدة آنذاك.
في خضم الحرب الأهلية الأميركية، لجأ الرئيس أبراهام لينكولن لاستحضار العامل الديني كحافز يحشد خلفه تأييد المترددين. وأصدر مرسوماً رئاسياً في 3 تشرين1/ اكتوبر 1863 يعلن فيه تحديد “آخر يوم خميس في شهر نوفمبر” عيداً وطنياً “كيوم لتقديم الشكر والحمد للخالق ملكوت السماء،” بعد أن أمنّ على قواته بالنصر في معركة غتيزبيرغ.
حرصت السردية الأميركية الرسمية على طمس حروب الإبادة ضد الاسكان الأصليين، وأشاعت أن المستعمرين الجدد “احتفلوا مع جيرانهم،” القبائل الهندية من (البيكو Pequots) وغيرها، بعيد الحصاد. ولا تستقيم الرواية أمام التمحيص العلمي لحقيقة ما جرى بأن “المستعمرين الجدد، ألحجاج كما أطلقوا على أنفسهم، أتوا للاحتفال سوية مع الجيران .. وهم الذين وجهوا الدعوة (للهنود الحمر) للاحتفال بما أنعم الله عليهم من خيرات.” بيد أن ما يعنينا ليس الخوض في بطون التاريخ وإثبات ما لحق السكان الأصليين من إبادة وتزوير، فقد أضحى ذلك في متناول الجميع للدلالة على حقيقة النظم الاستعمارية لإلغاء كل ما يتعارض مع “نقاء روايتها.” بل الإضاءة على مناسبة يتداخل فيها العامل الديني بالسياسي لخدمة شريحة تعتقد أنها “رُسل الله وورثته على الأرض.”
جدير بالذكر أن “احتفالات الحجاج – البيوريتانز – أو القديسين،” عام 1621 جاء في سياق هروب جماعي من القارة الاوروبية من ويلات “حرب الثلاثين عاماً،” التي اجتاحت وسط اوروبا بين الأعوام 1618 – 1648، كان التباين المذهبي فتيل إشعالها بين “البروتستانت والكاثوليك؛” عندما أصدر رئيس أساقفة مدينة براغ “فتوى” بتدمير كنيسة للبروتستانت.
حطت اولى السفن، ماي فلاور، التي حملت اولئك الاوروبيين في “مستعمرتي بلايموث وخليج ماساتشوسيتس،” لتعطي بدء ولادة التاريخ الأميركي الاستيطاني، على الرغم من أن مستعمرة بلايموث لم تكن الأولى للإنكليز في القارة الأميركية، كما لم تشهد “الحصاد” الأول هناك. بل تنبع أهميتها من “تقديس النموذج الأميركي الإستيطاني .. في بقعة تميزت بجمالها وجداول مياهها العذبة. وخيرها الوفير وحقولها الخصبة.”
المستعمرة الانكليزية الأولى شيدت في مدينة “جيمس تاون،” بولاية فرجينيا الحالية، وكانت تحت سيطرة أعوان الملك جيمس وامتداداً لإمبراطوريته، قضى فيها نحو 70 فرداً من أصل 108 مستعمر لأسباب الطبيعة المغايرة للموطن الأصلي؛ وشهد العام التالي هلاك نحو 440 مستوطن من أصل 500. الأمر الذي وضع المشروع الاستيطاني برمته محط تساؤل ومراجعة.
ركاب سفينة “ماي فلاور” أضاعوا البوصلة وحطوا بعيداً عن “جيمس تاون،” الهدف الأصلي، في منطقة “كيب كود” في ولاية ماساتشوسيتس؛ مما أثار هياجاً بين الركاب لعدم تحقيق مآربهم قبل احتواء الموقف بلطف وإتفاق شكل اللبنة الأولى لترسيخ “الحرية السياسية” في القارة الجديدة “في إطار سياسي مدني .. خدمة للمصلحة العامة في المستعمرة؛” واستمرار اعترافها بسلطة ونفوذ الملك البريطاني جيمس.
“المؤرخون” الأميركيون اعتبروا تلك “المعاهدة” بأنها أرست “التأكيد الضمني لنيل الفرد حريته .. وأن السلطة السياسية تنبع من توافق المحكومين،” بخلاف السائد آنذاك بأن “الملك هو مصدر السلطات.” الرئيس الأميركي المقبل، جون آدامز، أشاد بذلك النموذج الجديد الذي كان ثمرة “إجماع وموافقة شخصية من كافة أفراد المجموعة.” بيد أن لطبيعة الشتاء القارس كان لها القول الفصل في نجاح النموذج، وقضت على نحو نصف عدد المستعمرين في تلك السنة.
السردية الرسمية الأميركية، وكما تذكرها المناهج التعليمية، تمجد المستعمرين الإنكليز الذين وبعد أن استقروا في “موطنهم الجديد .. وجهوا الدعوة الى جيرانهم الهنود للاحتفال” بالنعم الإلهية. أما الرواية الأصلية بعد نفض الكثيف من غبار التزوير عنها فتشير بوضوح إلى أن أوائل المستعمرين هبطوا على شواطيء جزيرة “روانوك،” على سواحل كارولينا الشمالية اليوم، استقبلهم الأصليون “بالترحاب،” عام 1580 وشاركوهم نعمة الأرض وما تنتجه “وآووهم وكسوهم وأطعموهم وعلموهم أسباب البقاء في هذه الطبيعة الغريبة عنهم.”
“.. ولكن ما أن اشتد عودهم قليلا حتى راحو يخترعون الأعذار للقتل العشوائي ويتحينون الفرص لإتلاف المحاصيل وإحراق القرى والحقول وقطع أسباب الحياة عن الهنود الحمر عمداً،” كما تشير الروايات الموضوعية التي برزت في النصف الثاني من القرن العشرين.
مع تصاعد هجرة المستعمرين الاوروبيين قصد معظمهم العيش في “ولاية ماساتشوسيتس” والمستوطنات التي تجذرت هناك مع تراجع مضطرد لأعداد السكان الأصليين؛ وما أن شارف عام 1600 على الإنبلاج حتى أضحت “مستوطنة بلاي موث” أكبرها حجماً.
عيد “ووبيلا” للأصليين
أظهرت دراسات المراجعين من المؤرخين، الأميركيين والأصليين على السواء، أن قبائل “اللاكوتا،” تقطن أواسط القارة الأميركية، كانت تقيم احتفالات موسمية في نهاية موسم الحصاد أطلقت عليها “ووبيلا؛” وتعني بلغتها المحلية أن “كل ما يحيط بك هو نعمة وعليك ألا تكف عن التذكر من مصدرها، فهو قلبك.” وأوضح أحد كبار الصحافيين من السكان الأصليين، تيم جياغو، أن الاحتفال بيوم لتقديم الشكر “كان متأصلا في طبيعة السكان الأصليين منذ عدة قرون” من الزمن؛ مما يرجح سردية تماثل المستعمرين الاوروبيين مع الطقوس المحلية.
تطور النظام السياسي والاجتماعي الأميركي أدى لاعتبار المناسبة عطلة تمتد لأيام أربعة، الخميس – الأحد، تضفي عليها بعد التواصل العائلي وتقاطعها مع بدء موسم التسوق بشراهة واكتظاظ خطوط المواصلات في طول البلاد وعرضها، وايذاناً بموسم الاحتفالات بأعياد الميلاد.
بالعودة للسردية “الرسمية،” فإن المناسبة دشنت احتفال المستوطنين الجدد بحرية ممارسة معتقداتهم الدينية، كما أسلفنا، وهو البند الذي تم تضمينه للدستور الأميركي منذ بدايات الكيان السياسي. ويرجع “الفضل” لأولك المستعمرين في “بلاي موث” للتشديد على صون حرية المعتقد والعبادة، بعد هجرهم القمع الذي كان يعم القارة الاوروبية آنذاك، وأتخذ مفهوماً ينص على “حق تقرير المصير،” أي الاستقلال عن سلطة المركز الملكي.
يشار في هذا الصدد الى “دروس المستوطنين المستفادة” من الحرب الأهلية الإنكليزية، 1642-1651، على خلفية صراع أرضيته تباين سلطات الملك شارلز، آنذاك، وانصاره من الملكيين مقابل سلطات البرلمان؛ مما أسفر في النهاية على تنفيذ حكم الإعدام بالملك شارلز. “الحجاج أو القديسين” في القارة الجديدة كانوا من أنصار البرلمانيين ضد الملك ومؤيديه. وعند استعادة الملكية لسلطاتها في البلاد، قصد “القديسين” باب الهجرة نحو مستعمرة بلاي موث.
في هذا السياق، أثمرت توجهات المستعمرين الجدد “بحق تقرير المصير،” في ما أصبح يعرف “بالثورة الأميركية،” ومهد انطلاقتها في منطقة ليكسينغتون بولاية ماساتشوسيتس، بعد نحو 150 عاما.
أما السكان الأصليين، فلم “تمضِ ستون سنة على ولادة الأسطورة الأميركية حتى قضى الحجاج ونسلهم المقدس” على السكان الأصليين من قبائل البيكو والنيانتك، وفق وصف المؤلف الألمعي منير العكش، في كتابه أميركا والإبادات الجماعية. وأضاف ان “الآباء المؤسسون” للكيان السياسي الأميركي مضوا على خطى جورج واشنطن في تعليله “لطرد الهنود من أوطانهم بقوة السلاح لا يختلف عن طرد الوحوش المفترسة من غاباتها.”