فالح الفياض وعراق جديد ومنطقة تتغيّر: ناصر قنديل
– دعوة كريمة من رئيس مجلس إدارة قناة «الميادين» الصديق غسان بن جدو لغداء ترحيب بمستشار الأمن الوطني العراقي فالح الفياض، قبيل إطلالته على قناة «الميادين» ليل أمس، أتاحت فرصة قراءة ما بين سطور هذه الشخصية العراقية التي تتولى مهام رئيسية في رسم ومتابعة ملفات العراق الكبرى الداخلية والإقليمية والدولية، ومحاولة التعرّف عما لا يريد أن يقوله ويعرفه الفياض والعراق ينتقل من إنجاز كبير في الحرب على «داعش» إلى إنجاز كبير آخر في إسقاط خطر التقسيم. وقد قال الكثير في حواره مع «الميادين» عن الاتجاهات الرئيسية لمستقبل العراق ومستقبل المنطقة .
– أكد الفياض أنّ العراق يتجه ليكون لاعباً في اللعبة الإقليمية والدولية، ويرفض أن يكون ملعباً لها، وأنّ إنجازات العراق في معركتي إسقاط خطر الإرهاب وخطر التقسيم، كأكبر تحدّيين معاصرين تعيشهما المنطقة، والعالم، تؤهّله لهذا التطلع، ويضع الحركة العراقية نحو الدول الإقليمية الفاعلة، السعودية ومصر وتركيا وإيران، وإدارته لعلاقاته بالدولتين العظميين أميركا وروسيا، ضمن هذا السياق. والعراق هو الوحيد، ربما، القادر على التحدّث مع الجميع بلغة الدعوة للتفكير الهادئ في ما يصيب المنطقة وما يتهدّدها، ويتهدّد العالم من خلالها، وبيده فوق إنجازاته، ثقله السكاني والاقتصادي ومكانته الجغرافية والاستراتيجية، وتنوّعه الديمغرافي الذي يحول دون تطلع أحد لجعله مجرّد مرآة أو صدى أحادي لواحدة من هويات المنطقة ومكوّناتها، أو تحويله لساحة من ساحات الاحتراب بين هذه الهويات والمكوّنات، لأنّ اللعبة في العراق ستحرق الجميع، وما جرى كان كافياً لقول ذلك، من دون أن يتساوى بنظر العراق الجميع، مَن راهن على العبث بمَن راهن على الاستقرار، ومَن لعب مع الإرهاب ومَن حاربه بشراسة، ومَن عاش أوهام التقسيم ومَن قاومه بضراوة، ومَن ساند العراق ومَن تفرّج عليه بأحسن حال، لكن مع الأخذ بالاعتبار أنّ السياسة والأدوار في السياسة لا تصنعها أساليب الانتقام والمساءلة وتصفية الحسابات، بل قياس التحوّلات في المواقف التي تنتجها المتغيّرات في الوقائع، لتلقفها والبناء عليها.
– يثق الفياض أنّ عراقاً جديداً قيد الولادة، بعدما تذوّق طعم انتصارات عظمى أنجزها بدماء أبنائه وحزم مرجعياته وقياداته، وأدرك حجم مكانته بمعنى هذه الإنجازات في معركتي الإرهاب والتقسيم، قياساً بدرجة الخطورة التي كان يمثلها عليه وعلى المنطقة والعالم فشل العراق بالنهوض بأعباء هاتين المعركتين، كما أدرك حجم قدرته على استنهاض قوى إقليمية ودولية تشترك معه في معاركه، أو تسانده، أو أقله تتلقف إنجازاته وتؤسّس عليها. وهنا يميّز العراقيون بين تقدير كلّ مساهمة معهم، خصوصاً ممن بذلوا الدماء، لكنهم يرفضون تصوير الإنجازات كلها كمجرد لعبة إقليمية دولية، نفّذ العراقيون قسطهم منها بقيادة غير عراقية، فيقول الفياض، ليست لدينا عقدة النقص لنتخيّل أنّ الإنجاز غير عراقي، ولا لدينا قلة الوفاء لننكر على الذين وقفوا معنا تضحياتهم.
– العراق الجديد الذي يولد من رحم الإنجازات يولد أيضاً من مخاض التجارب المريرة، والعبر الكثيرة، فقد اختبر الشيعة العراقيون رهان الكثرة العددية، ووصلوا مع ظهور داعش لمراجعة نقدية أسّست لإيلائهم أهمية استثنائية لعلاقتهم بالسنة العراقيين، وقد ترجموا ذلك في السياسة كما في تكوين وبنية الحشد الشعبي وقياداته. وفي المقابل اختبر سنة العراق العصب المذهبي ولعب حافة الهاوية في إثارته احتجاجاً بوجه الشيعة الذين تصدّروا الحكم، واختبروا الفوضى وتعميمها لتعطيل مفاعيل الحكم، وكانت النتيجة ظهور «داعش» وما دفعه سنة العراق من أثمان باهظة. كما اختبر السنة والشيعة معاً، تراكم ملفات التأزّم مع الأكراد، وملفات التنازلات، والنتيجة كانت قسوة تجربة خطر الانفصال، ليتأكدا معاً من حجم تمسّكهما بعراق موحّد من جهة، ومن أهمية الشراكة مع قوى سياسية كردية تتطلّع لعراق موحّد ينصف الأكراد، ولا يسلبهم إنجازاتهم، من جهة أخرى، لكن الأكراد أنفسهم اختبروا أيضاً أوهام الدعم الدولي والإقليمي لمشروع الانفصال، كما اختبروا المبالغة في الخصوصية القومية لتحويلها عصبية عدائية مدمّرة، واكتشفوا حجم المكاسب التي توفرت لهم سابقاً في عراق موحّد والتي ستتوفر في عراق موحّد وقوي ومستقرّ وتشاركي لذلك يقول الفياض، إنّ عراقاً جديداً قيد الولادة، وإنّ الهوية الاستراتيجية للعراق القائمة على الاستقرار في المنطقة والعداء لـ «إسرائيل»، والنابعة من التمسك بالاستقلال الوطني للدول ووحدتها وسيادتها، تكتمل بهوية وطنية جامعة يشعر العراقيون بمكوّناتهم كلها أنها أشدّ صلاحية ليستظلوا بها جميعاً، من دون مغادرة خصوصياتهم، والمنطلقات والتراكمات الثقافية التي ميّزتهم بعضاً عن بعض، لتحويلها مصدراً لنعمة لا سبباً لنقمة.
– العراق الجديد يتزامن مع، ويشارك في آن معاً في، صياغة منطقة تتغيّر، فهو دون سواه على حدود إيران وتركيا وسورية والسعودية معاً، وهو يتلمّس ويقرأ وكثيراً ما يعلم، أنّ زمن التسويات هو الآتي بقوة وبسرعة، وأنّ زمن الحروب يحزم حقائبه، وأنّ الدول العظمى واللاعبين الإقليميين باتوا على إدراك بأنّ اللعبة انتهت، وأنّ أرباح المساهمة في التسويات يقابلها مزيد من خسائر التورّط في الحروب، وأنّ تلك الخسائر تفوق توقعات الأرباح الافتراضية لمواصلة الحروب بالوكالة، والتي كان الإرهاب إحدى أدواتها، سواء بالتبنّي أو بالتغاضي، أو بالتسهيل، أو بوهم اللامبالاة، وأنّ الجميع يحتاج لمخارج مناسبة لبلوغ التسويات، وبحاجة لمن يقترح ويسهم في صناعة المخارج ويقدر على تشكيل منصاتها، بموقعه في السياسة والجغرافيا وبثقله في المعارك التي يناسب الجميع التموضع تحت رايتها، وعنوانها الحرب على الإرهاب. وهذا هو دور العراق فأكراد سورية يستوعبون درس أكراد العراق ومغامرة بعض قادتهم بالانفصال ويحتاجون مَن يفتح لهم الباب الخلفي والأميركيون يعلمون جيداً أين تتجه الأوضاع وأين يجب أن تتجه، ومثلما يحتاجون أدوات التصعيد، يحتاجون وسطاء التمهيد، ويحتاجون للقاء السوريين والأتراك مثلهم والسوريون مهتمّون بسرعة خلاص محنة بلدهم، وهم يقدّرون مَن يسهم في بلورة منصات الحلّ السياسي ويمهّد الطريق لإقلاع قطاره ومثلهم اليمنيون وأكثر ومصر تتوق لاستعادة دورها ومكانتها والسعوديون ليسوا خارج هذا السياق وإيران بحكمتها وعقلانيتها لم تغلق باب اللقاء مع أحد يوماً وروسيا التي باتت متواجدة هنا تعرف السياسة والاقتصاد والأمن وتجيدها جميعاً، ولذلك فالمسألة هي أنّ العراق الذي يدرك جيداً ما لديه وليس لدى سواه، لا يبالغ بحجمه ومكانته، لكنه لا يبخس حق نفسه، ويستقوي بكونه يراهن على الخيارات التي تجلب الخير للجميع، بعدما باتت هذه الخيارات موضع إجماع، والسنة المقبلة ستحمل الكثير من المفاجآت التي لا تعبّر عن حقيقتها التصريحات.
– هذا ما لم يقله فالح الفياض، فهو مستشار أمن وطني، بامتياز…