وقفة مع صين المستقبل د.بثينة شعبان
علّ أبرز حدث في الأيام الأخيرة، والذي لم يتوقّف عنده الإعلام العربي لأنّ الإعلام الغربيّ وتوابعه غير مهتمين بإبرازه، هو ما صدر عن الحزب الشيوعي الصيني من قرارات واستراتيجيات وضعت رؤية لمستقبل الصين حتى عام 2035، ومن ثمّ رؤية أبعد حتى عام 2050، ومن أجل الإضاءة على هذا الحدث الهامّ، نوضّح أنّ هذه الرؤى هي نتاج حوارات ونقاشات من القاعدة إلى القمّة استغرقت عاماً ونيّف، رسمت للصين آفاقاً جديدة؛ اقتصادية وسياسية واجتماعية من خلال طرح رؤية جريئة وحازمة لمستقبل البلاد مبشّرين ببزوغ فجر عصر جديد من الرخاء والقوّة الصينية، وسوف تقدّم الصين رؤيتها للتغيير في العالم من خلال «طريق الحرير» الجديد، والذي هو ممرّ للتجارة العالمية، يمرّ عبر ستين دولة في آسيا وأوروبا، سوف يغيّر من علاقات هذه البلدان وأوضاعها الاقتصادية. ولم ينسَ الرئيس الصيني، تشي جينبينغ، أن يذكر أنّ الصين ستكون قوّة سلام وأمان في العالم، وستؤكّد على سيادة الدول وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية فيها. ولكن كلّ ما رأته الولايات المتحدة في هذا الحدث الهامّ هو أنّ الصين ستصبح الخصم الأكبر للولايات المتحدة بحلول عام 2025، كما قال الجنرال جوزيف دنفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة في الكونغرس. أما وزير خارجية الولايات المتحدة، ريكس تيلرسون، فقد أكّد أنّ أمريكا لن تحجم عن التصدّي لما سمّاه حالات تقويض الصين سيادات الدول المجاورة، وإضرارها بالولايات المتحدة وأصدقائها. أعتقد أنّ الإضرار بالولايات المتحدة ناجم أولاً وقبل كلّ شيء من الطبيعة الامبريالية للولايات المتحدة وسياساتها العشوائية التي تُظهر تخبّطاً واضحاً في السياسة الأمريكية القائمة أولاً وقبل كلّ شيء على نهب ثروات الشعوب واستخدام التهديد والوعيد والعقوبات والحرب والإرهاب ضدّ دول العالم قاطبة، ما عدا إسرائيل، بما فيها دول ذات سيادة لم يسبق أن ناصبت الولايات المتحدة العداء. وفي الوقت الذي نرى رؤية واضحة لدولة مقتدرة تدرك مكانتها وحجمها في العالم، وتحرص على مصداقيتها، وعلى تراكم عناصر قوّتها، كما تفعل الصين، نلاحظ على الجانب الآخر الولايات المتحدة تصدر عقوباتٍ قسرية هنا، وتساند الإرهاب بمنع التواصل بين بلدين عربيين جارين، وتدعم فئات من المرتزقة متواطئة معها لوضع يدها على مصادر الغاز والنفط، وتتهم كلّ من لا يسير في ركبها وركب الكيان الصهيوني بالإرهاب، وتؤيد أحكاماً قاصرة عن منظمات أسمتها دولية ولكنّها تأتمر بأمرتها، وتنفّذ كلّ هذا وذاك من خلال شراء عملاء هنا ومعاقبة من لا يكون طيّعاً هناك.
وبسبب سيطرة الشركات الاحتكارية الكبرى في الغرب على معظم وسائل الإعلام العالمية، مازال تفاعل العالم مع الأنموذج الجديد الذي تقدّمه الصين أقلّ من الممكن والمفيد لهذه البلدان ذاتها، ذلك لأنّ الإرث الاستعماري لشعوبنا مازال يبهر الكثيرين ويقودهم للبحث عن نقاط قوة في بلاد الغرب، رغم أنّه أصبح واضحاً للعيان أنّنا نشهد اليوم أفولاً حقيقياً للقوى الغربية، وانهياراً في التزاماتها الأخلاقية، وصدقها مع الذات ومع الآخر. فلو كانت الولايات المتحدة هي التي تخطط استراتيجيات مبهرة تمتدّ حتى منتصف القرن القادم، لوجدنا الإعلام الغربي بالترويج للعظمة والقوة والفكر الذي تمثّله الولايات المتحدة، ولأثنى على ريادتها للعالم، ولكرّس البرامج والمقالات والحوارات لاكتشاف أسرار القوّة هذه. أمّا الحدث المهمّ في الصين، والذي يؤسس فعلاً لعالم مستقبليّ مختلف جداً عن العالم الذي نشهده اليوم، فلم يحظَ أبداً بما يستحقّ من الاهتمام، وهذا لا بدّ وأن يكون نتيجة للانبهار وعقلية التبعيّة التي تجعل من غير الممكن للإعلام التابع التخلّص من هذا الإرث النفسي والسياسي على حدٍّ سواء. لقد تنبّأ بعض الكتاب بمواجهة قادمة لا محالة بين الصين والولايات المتحدة، ولكنّي شخصياً لا أرى أيّ معطيات حقيقية تشير إلى أنّ هذا قادم أبداً لأنّ عوامل التفكك في الولايات المتحدة وأوروبا كفيلة لوحدها بانزياح هاتين القوّتين من عالم المستقبل، أمّا الصين التي تبني دورها لبنة لبنة ضمن عالم متنوّع ومتعدّد، ومع فهم واحترام ونظرة تعاون، فستتربع على عرش المستقبل، وستقدّم أنموذجاً مختلفاً لقوّة عظمى لم تتحكّم بها شركات السلاح والنفط ورأس المال فقط، بل ركّزت على إعلاء الإنصاف والعدالة الدوليين، ومعارضة أيّ أعمال تستهدف فرض إرادة أحد على الآخرين، أو التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، وممارسة القوّة للاستئساد على الضعيف. وأكّد الرئيس تشي أنّه مهما بلغت قوّة الصين، فلن تسعى أبداً للهيمنة أو التوسّع، وأومأ إلى تراجع قيادة الولايات المتحدة بالقول: «لا يمكن لدولة بمفردها أن تتعامل مع جميع أشكال التحديات التي تواجهها البشرية، ولا يمكن لدولة أن تجنح للعزلة». استراتيجية الصين تركّز على احترام الآخر والإيمان الحقيقي بوحدة البشرية، ولا شكّ أنّ هذه الاستراتيجية الأخلاقية ستهزم الاستراتيجيات الاستعمارية الغربية التي بُنيت على مبادئ التدخّل وسرقة ثروات الشعوب وقهر البلدان الصغيرة بالقوّة ودعم الإرهاب لتحقيق أغراض سياسية واستخدام حقّ النقض «الفيتو» لحرمان شعب فلسطين من تأسيس دولته، والقائمة تطول: «أفمن يعلم كمن لا يعلم أفلا تعقلون».