هذا قرن الصين تعرفه أميركا: ناصر قنديل
– للذين يتوهون في تفاصيل الاستغراق بقراءة الأحادية الأميركية ويصرّون على الانبهار بأنّ أميركا كانت وستبقى اللاعب الرئيسي المقرّر على الساحة الدولية، أن يعودوا إلى كتابات المحافظين الجدد، وتوقعات كبار المفكرين الأميركيين، من أمثال صموئيل هنتنغتون، وفرانسيس فوكوياما، وبرنارد لويس، عن فرصة أميركية لاستثمار سقفه الربع الأول من القرن الحادي والعشرين لتثبيت زعامتها، وإلا فإنّ الصين قادمة، والقرن قرن الصين، وأنّ زمن الانهيار والتراجع في حالة روسيا سينتهي قبل نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وأنّ قوة الصين الاقتصادية ستخرجها إلى السياسة والأسواق معاً وستجمعها مع روسيا على السعي لاستبدال الدولار كعملة رئيسية في العالم، وما تستطيعه أميركا وما يجب ألا تتأخر عنه هو الإمساك بمنابع الطاقة وطرق تدفقها، قبل نهاية المهلة، والحرب على منطقة ما بين بحار قزوين والأسود والأحمر والمتوسط ستقرّر مصير العالم ونظامه وزعامته، وهي بالمناسبة المنطقة التي دعا الرئيس السوري بشار الأسد قادتها لتشكيل منظمة إقليمية باسم منطقة البحار الخمسة مضيفاً الخليج إلى البحار الأربعة لتصير خمسة
.
– دارت حرب البحار الخمسة ولن تستمرّ بعدما فقدت قوة الدفع، ولو جرجرت ذيولها لما تبقى من الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، فما أصاب الحرب الأميركية بأهدافها وتحالفاتها وجيوشها كاف لإعلان فشلها، والسعي لإمساك مصادر الطاقة للتحكم بالنمو الصيني وأسعار السلع الصينية صار حلماً فائتاً، كما فشلت خطط التحكم بتدفق الطاقة من روسيا إلى أوروبا وفرض بيعها بأسعار رخيصة لتمنح الاقتصادات الأوروبية الثقيلة فرص النمو، وتعوّض عليها أكلاف ضمّها الدول الفقيرة شرق أوروبا بهدف إحكام حصار روسيا تمهيداً لفرض الاستسلام عليها. فالحرب تضع أوزارها أو تكاد بينما روسيا والصين تمسكان بمفاتيح الصعود الاقتصادي والسياسي والعسكري، والأهمّ بلوغ البحار، وقد كانت سورية مفتاح فرص هذا التموضع.
– خاضت روسيا والصين تجربتين مختلفين نحو العالمية، لكن جوهرهما واحد. فالفشل الذي أصاب النموذج التقليدي للاشتراكية مع تجربة الاتحاد السوفياتي، دفع بهما عملياً نحو رأسمالية الدولة، سواء جرت تسميتها في روسيا بالليبرالية المجتمعية والاقتصاد الرأسمالي المتعدّد، أو سمّيت في الصين باقتصاد السوق الاشتراكي، فجوهر اقتصاد البلدين الجديد يقوم على دولة تمسك بالمصادر الاستراتيجية للاقتصاد وتترك التنافس الحرّ للقطاع الخاص في سواها، وتتمسك بقوة بدور الدولة الاجتماعي بضمانات اجتماعية عالية تقدّمها الدولة للفقراء وذوي الدخل المحدود.
– لكن رأسمالية الدولة الجديدة في الصين وروسيا تعتمد على ركيزة جديدة هي مضمونها الاشتراكي، حيث يتشكل قلب التحوّل الذي أدخلته كلّ من روسيا والصين على فهمهما للاقتصاد الاشتراكي، هو إدراك أنّ فائض القيمة الذي يحقق التراكم الرأسمالي ليس في قوة العمل وما يبذله المنتجون، أيّ ليس في الإنتاج كما كتب كارل ماركس وفريديريك أنغلز، مؤسّسا الاشتراكية، بل في التبادل، حيث تلعب وسائل نقل السلع والمواد الخام وموارد الطاقة الدور المحوري في تحديد كمية التراكم الرأسمالي الذي يحققه الإنتاج، والتبادل هو الحلقة التالية من العمليات الاقتصادية الأربع التي لخّص بها العبقريان ماركس وأنغلز العملية الرأسمالية، «الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك»، وليس مهماً إنْ صاغ الصينيون والروس هذا التحوّل بمفهوم فلسفة اقتصادية بقدر أهمية أنه يشكل جوهر قوة روسيا والصين اليوم، فروسيا دولة أنابيب النفط والغاز، والصين دولة خطوط سكك الحديد.
– مَن يراقب الصين وروسيا خلال ربع قرن مضى سيكتشف حجم الرابط بين النمو الاقتصادي لكليهما، بنمو إمساك الدولة بجوهر العملية الاقتصادية. في روسيا وسائل نقل الطاقة، وفي الصين وسائل نقل المواد الخام والبضائع، وسيكتشف تناسباً موضوعياً بين هذا النمو والثروات الطبيعية للبلدين، فروسيا بلد النفط والغاز والصين بلد الفولاذ، وسيكتشف أسباب تفوّق روسيا والصين ونجاحهما بتفادي السقوط أمام المساعي الأميركية للهيمنة بقوة الإمساك بوسيلة النقل الافتراضية للطاقة والبضائع معاً، التي تمثلها المعاملات البنكية، وهي وسيلة غير قابلة للنمو ولا تصلح بذاتها لتحقيق التنمية للاقتصاد الأميركي إلا افتراضياً، كما حدث في بورصات وول ستريت قبل انفجارها الدفتري، وفي سوق العقارات قبل إفلاسها. بينما في المقابل سيكون للصين مدى مفتوح في النمو ما دامت سكك الحديد التي تبنيها وتسعى لبنائها تتناسب مع حجم البضائع التي تنتجها والقابلة للتسويق في الداخل أو الخارج، ومثلها روسيا سيكون لها الفرص ما دامت أنابيب الغاز والنفط التي تنشئها متناسبة مع مقدار حاجة الأسواق للنفط والغاز الذي تصدّره إلى أسواق تحتاجه بسعر يناسب معادلات الإنتاج وأسعارها بينما واشنطن دخلت المرحلة التي صار نموّها فيها سلبياً، بعدما اجتازت الخطوط الحمراء لتوسّع سوقها المصرفية ومعاملاتها الورقية لسقوف البضائع والسلع الحقيقية التي يقوم المال وتقوم المصارف والبورصات بتداولها. ولعلّ الإقدام على خوض الحرب من الجانب الأميركي تعبير عن العجز عن اللعب مع الزمن دون تدخل عنيف يغيّر مسار التطورات الطبيعية، وتحمل نتائج التنافس الذي تقرّره الطبيعة.
– تتقدّم الصين على روسيا بكونها سوقاً داخلية أوسع بأربع مرات، وبكونها تنتج البضائع والسلع لا موارد الطاقة والمواد الخام فقط، ولذلك فهي ستبلغ في أعوام قليلة باعتراف صندوق النقد الدولي مرتبة الاقتصاد الأكبر في العالم، بعد تجاوزها للاقتصاد الأميركي، وستبلغ أيضاً باعتراف الصندوق نفسه مرتبة الدولة الأولى في امتلاك الكتل النقدية وتتخطى بذلك اليابان، ولأنّ لا مساحة تحدّ مما يحتاجه السوق العالمي من سلع صينية بأسعار مناسبة، سيتوقف نجاح عالمية الصين على حلّ معضلات التجميع المحلي القريب من الأسواق توفيراً للكلفة وسعياً للحماية بالحصول على توافق مع المنتجين فيها. كما سيتوقف الفوز بالتحدّي على وصول السلع للأسواق بوقت مناسب وكلفة مناسبة، لذلك تستعدّ الصين لحملة عالميتها بمشروع الحزام والطريق، القائم على شبكة مواصلات ومناطق حرة صناعية عابرتين لآسيا، وصولاً إلى أبواب أوروبا وأفريقيا، مقدّر له أن يبدأ ثماره الواسعة في العام 2025 وأن يبلغ نهايته في سياق نمو متسارع ومستديم في العام 2050.
– خلال سنوات ستكون الصين قادرة على امتصاص كميات هائلة من النفط الخليجي والغاز الروسي والإيراني والقطري، كما ستكون قادرة على ضخّ كميات هائلة من بضائعها نصف المصنّعة إلى مئات المناطق الصناعية الحرة التي تبنيها على محطات تتوزّع حول مئات آلاف الكيلومترات من سكك الحديد، وستقذف في الأسواق كميات أكبر من السلع الاستهلاكية الجاهزة للاستهلاك مباشرة، حيث الفولاذ الصيني سيكون جسر العبور بخطوط نقل عملاقة وقطارات سريعة لا مثيل لها في العالم، وستمتلك الصين فوائض مالية بآلاف التريليونات من سلة عملات لا يحتكرها الدولار الأميركي، يدخل بين مصنفاتها الروبل الروسي واليوان الصيني، وسيكون العالم في موضع الطلب والصين في موقع العرض.
– التحدّي الصيني والروسي يقف عند حدود القدرة على تطويع الغرب الأوروبي والأميركي لارتضاء توازن في تبادل خيرات الاقتصاد وخبراته، وتوازن في لعبة القوة، وتوازن في إدارة السياسة، لأنّ المقبل من السنوات سيمنح روسيا والصين فرصة الشراكة بين دولة الإنتاج الأولى التي ستمثلها الصين، ودولة القوة والطاقة الأولى التي تمثلها روسيا، وسيكون صعباً، بل مستحيلاً مقاومة سطوة هذا الثنائي. ومثلما تخلت روسيا عن سباق التسلح لإصلاح اقتصادها قبل عقود، ستجد دول الغرب أنها مَن سيبادر للدعوة للتخلص من الترسانات النووية المكدّسة بلا طائل، لتمكين اقتصاداتها من الانطلاق مجدّداً.
– التوجه شرقاً، الجملة التي قالها الرئيس بشار الأسد ليست مجرد خيار سياسي لبلادنا، ولا هي مكافأة لمن وقفوا معنا فقط، بل هي استباق واعٍ لما هو آت لا محالة.
– شي جينغ بينغ زعيم الصين الجديد، آتٍ بسكك الحديد العملاقة والقطارات السريعة، والسلع الرخيصة والمتعدّدة، احفظوا هذا الاسم جيداً.