كركوك وانتحار البرزاني: ناصر قنديل
– عندما هدّد داعش كركوك وصار على أبوابها هبّت واشنطن لتعلنها خطاً أحمر، وتركت البشمركة تتموضع فيها وفي حقول نفطها، وكما سعت قبل أيام لنقل الوحدات الكردية إلى حقول نفط دير الزور وترك الرقة لتنظيم داعش، منعاً لاقتراب الجيش السوري، عادت فنقلت وحدات داعش إلى هناك للهدف نفسه، وها هي ترفع الصوت عالياً لقيام الجيش العراقي بدخول كركوك وحقول نفطها .
– عندما أعلن مسعود البرزاني الاستعجال بالاستفتاء على انفصال كردستان، كان واضحاً أن الأمر لا صلة له بسبب يتعلق بحق تقرير المصير الذي انتظر شهوراً لنهاية داعش وانعقاد حوار عراقي شامل لرسم خريطة المستقبل، وقد انتظر عشرات السنين. فالاستعجال هو لاستباق نهاية داعش وفرض أمر واقع يتصل بالاحتفاظ بكركوك التي تمّت السيطرة الكردية عليها تحت غطاء إبعاد داعش عنها. كما كان واضحاً أن نتيجة الاستفتاء الكردي ستكون سلبية إذا كانت كردستان من دون كركوك. كما كان واضحاً أكثر أن الاستفتاء الذي قد تخضع شرعية إجرائه في المحافظات الكردية الثلاث لكثير من الاجتهادات والنقاشات، إلا أن إجراءه من طرف واحد في كركوك هو غير شرعي وباطل، ومشروط بتوافق وإشراف الحكومة المركزية في بغداد، طالما كركوك مصنفة كمحافظة متنازع عليها، وبالتالي يصير واضحاً أنه بقدر ما النيات المبطنة للاستفتاء تقوم على السطو على كركوك، فإظهار حسن النية يبدأ بإعادة كركوك للسيادة العراقية وإلغاء نتائج الاستفتاء فيها، والرفض في هذه الحال يعني قرار حرب.
– جاءت مواقف العراق وسورية وتركيا وإيران تقول لقادة إقليم كردستان إنها تأخذ شعبها للانتحار بالعناد الذي تبديه بالسطو على كركوك. وكانت قيادات كردية عاقلة ومعتدلة لا يُستهان بوزنها، وعلى رأسها الاتحاد الوطني الكردستاني، حزب الرئيس الراحل جلال الطالباني، تدعو لاستثناء كركوك من الاستفتاء وربط مستقبلها بالتوافق العراقي، وتسريع تسليمها للحكومة المركزية في بغداد، وصار التوافق العراقي الإيراني التركي السوري أن يجد نقطة لقاء مع هذه القيادة الكردية عنوانها، إلغاء نتائج الاستفتاء في كركوك، وإعادة كركوك إلى حضن الدولة العراقية كمدخل لحوار هادئ ينهي القضايا العالقة ومن ضمنها يبحث مصير الاستفتاء.
– حمل الجنرال قاسم سليماني الصورة كاملة لقيادة البرزاني، داعياً لتلقف الفرصة قبل الدخول في مرحلة يصعب معها العودة إلى الوراء، فكان الردّ باستجلاب عناصر حزب العمال الكردستاني إلى كركوك، عشية انتهاء المهلة ليل الأحد الإثنين. وبدأت العملية التي استعد لها الجيش العراقي ووحدات الحشد الشعبي. واتخذت فصائل البشمركة في كركوك موقفاً إيجابياً، وهي في غالبها تتبع لحزب الطالباني، ومثلها العاصمة الكردية الثانية في السليمانية التي تسعى لتوافق مع دول الجوار ومع الحكومة المركزية في بغداد، بخلاف أربيل وزعيمها البرزاني، ما جنّب العراق والمنطقة حرباً أهلية تجتمع فيها حكومات العرب وإيران وتركيا بوجه الأكراد، لتنقذ الحكمة الطالبانية المنطقة من الخطة «الإسرائيلية» الهادفة لحروب تقوم على اصطفافات عرقية صافية. كما حدث عندما أحبطت حلب ودمشق حلم الحرب المذهبية في سورية.
– ما جرى في كركوك سيشكل نقطة تحوّل في مصير المنطقة. فهو من جهة يقول للأكراد في سورية والعراق أن الأميركيين والسعوديين و»الإسرائيليين» الذين يشجّعونهم على التصعيد نحو الانفصال لن يقدموا لهم شيئاً ساعة الصفر. ويقول للعرب والإيرانيين والأتراك، إن المواجهة سياسية وليست عرقية ولا قومية، وإن القيادة الحكيمة للسليمانية شريك في إعادة صياغة العلاقة بين مكوّنات شعوب المنطقة بطريقة تقوم على الاحترام المبتادل للخصوصيات، والعيش السلمي الواحد، وإحباط مشاريع الفتن والحروب الأهلية.
– البرزاني ينتحر بعدما لعب ورقة حظه الأخيرة، بكامل الرصيد الكردي والإقليمي والدولي، وفقاً لمعادلة «يا قاتل يا مقتول»، وها هو يخرج مقتولاً، من دون أن ينجح بدفع المنطقة للاقتتال. فالمعادلة المطروحة اليوم أمام الأكراد كردية كردية وليست بين الاستقلال والتبعية، فقد منحوا مشروع البرزاني تفويضاً مفتوحاً للسير بدولة الانفصال وفشل بتوفير المقوّمات وتجمّد عند الخطوة الأولى وثبت خطأ حساباته وتحالفاته، ليكون الخيار المقابل الداعي للتعقل والذي يمثله تيار الطالباني بين الأكراد خشبة الخلاص الكردية بعقلانية وروح المسؤولية التي أبداها تجاه مستقبل ناسه وعلاقات الأكراد بجيرانهم، الذين عاشوا معهم آلاف السنين التي مضت وسيعيشون معهم آلاف السنين التي ستأتي.