ترفيع إيران إلى مرتبة عدو أميركا الأول…: د. عصام نعمان
أطلق ترامب أخيراً عاصفته المجنونة الموعودة: إيران وحرسها الثوري هي الخطر الداهم .
إيران كانت دائماً، في رأيه، خصماً مؤذياً. ترامب قرّر ترفيعها الى مرتبة العدو الأول والأفعل. خطرها ليس نابعاً من كونها قوة نووية بل من كونها ذات قدرات متنوّعة ومتعاظمة وأنها مقتدرة وقادرة على تحجيم نفوذ أميركا وإجلائه عن البرزخ الممتدّ من شواطئ البحر الأبيض المتوسط الى شواطئ الخليج.
الاتفاق النووي ليس سبباً للعداوة بل ذريعة لتعظيمها. ثمة تحريض «إسرائيلي» متوقّد، وكذلك خليجي، لكنهما ليسا الدافع الأول لترفيع إيران إلى مرتبة العدو الأول. الدافع الأول اقتناعُ ترامب والمنظومة السياسية والعسكرية الحاكمة establishment بأنّ الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ جورج بوش الأب الى باراك أوباما، أخفقت في حربها الناعمة soft power على إيران وقوى المقاومة المتحالفة معها. لعلّ المظهر الأخير للإخفاق اندحار الإرهاب المتمثل بـ «الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش».
سواء كان تنظيم «داعش» صناعة أميركية، كما يعتقد كثيرون، أم مجرد ردّة فعلٍ على تغوّل الولايات المتحدة وبعض دول الغرب الأطلسي و«إسرائيل» في استباحة بلاد العرب والمسلمين، فإنّ ثمة حقيقة ساطعة لا سبيل الى إنكارها هي أنّ أميركا وبعضاً من حلفائها الإقليميين استعملوا «داعش» وأخواته من أجل ترسيم خريطة جيوسياسية جديدة لبلدان غرب آسيا ولمواجهة قوى المقاومة البازغة فيها.
انهزام الإرهاب ومن هم وراءه هو الدافع الرئيس للولايات المتحدة، في ظلّ ترامب، إلى تأكيد وتعزيز وتظهير قرار مواجهة إيران وقوى المقاومة المتحالفة معها.
لا بدَّ من التوضيح أنّ قوى المقاومة العربية عموماً متحالفة مع إيران وليست أداةً لها. صحيح أنّ إيران تموّل وتسلّح وتدرّب العديد من فصائلها، وأنّ لها في صفوفها تأييداً ونفوذاً، لكن قياداتها ليست بالتأكيد أداةً لإيران.
إدارة ترامب والمنظومة السياسية والعسكرية والاستخبارية الأميركية حريصة على إضفاء صفة التبعية على قوى المقاومة العربية المتحالفة مع إيران. التبعية تهمة ملفّقة. قيادات حزب الله اللبناني، والجهاد إلاسلامي و«حماس» الفلسطينيتين وغيرها من التنظيمات والفصائل ليست بالتأكيد أدوات لإيران ولا وكيلة لها. العلاقة بين تلك القوى المجاهدة وإيران ليست علاقة تبعية أو ارتزاق بل علاقة تعاهد وتحالف وتعاون في مواجهة أعداء مشتركين. هذا ما يبدو سائداً حتى الآن.
هل من متغيّرات لافتة في الوسائل والغايات بعد إعلان ترامب استراتيجيته تستوجب انتباهاً وتركيزاً خاصاً من طرف قوى المقاومة؟
من الواضح أنّ إدارة ترامب تعتمد مقاربة مغايرة لسابقاتها في العراق وسورية من جهة، وفي فلسطين من جهة أخرى. في العراق، تدعم واشنطن مداورةً مسعود البرزاني على تثبيت وضع انفصالي عن حكومة بغداد المركزية يرمي إلى تمكين الكرد من إقامة دولة مستقلة في كردستان العراق. في السياق، تحبّذ واشنطن نشوء حالة اشتباك بين قوات «البيشمركة» وقوات الجيش العراقي لتوليد حاجة لدى حكومة بغداد لاستبقاء القوات الأميركية المتواجدة حالياً في الشمال، كما من أجل إطالة أمد عدم الاستقرار في البلاد.
في سورية، تدعم واشنطن قوات سورية الديمقراطية «قسد» لإقامة سلطة منفصلة عن حكومة دمشق يُراد لها، في المدى الطويل، ان تشكّل الجناح السوري لدولة الكرد المستقلة في شمال العراق وشمال سورية، وهو مخطط يحتمل واحداً من تفسيرين: إما إقامة دولة كردية بالتفاهم مع تركيا تقتصر على أجزاء من العراق وسورية وتعويض أنقرة بدعم جهودها للسيطرة على الكرد الأتراك في شمال شرق البلاد، وإما غضّ واشنطن النظر عن قيام تركيا بالسيطرة على أجزاء واسعة من شمال سورية بغية تحقيق غرضين: حصر دولة الكرد المستقلة في شمال العراق، وإبقاء شمال سورية رهينة في أيدي الأتراك لحمل حكومة دمشق وفصائل المعارضة السورية على التسليم بإقامة نظام فدرالي ضعيف يراعي أميركا وتركيا ولا يشكّل خطراً على «إسرائيل».
في فلسطين المحتلة، ثمّة مؤشرات إلى أنّ ترامب يحلم بتحقيق ما يسمّيه «صفقة القرن» بين «إسرائيل» والفلسطينيين. مضمون «الصفقة» لم يتّضح بعد، إلاّ انّ القليل مما تيسّرت معرفته يشير إلى تسويق تسويةٍ بين الطرفين تعطي الفلسطينيين كياناً سياسياً يقتصر على أمكنة كثافتهم السكانية في الضفة الغربية، على أن يُصار إلى ربطه بالأردن من خلال نظام كونفدرالي يرعى شؤون القدس الشرقية والحرم الشريف.
الى ذلك، تأمل إدارة ترامب بأن تساعد التسوية المرتجاة على تسهيل وتسريع عملية التطبيع بين «إسرائيل» والدول العربية «المعتدلة»، وفي مقدّمها السعودية ودول الخليج، على أن ترافق هذه العملية مبادرات اعتراف متبادل إذا كانت أوضاعها الداخلية تحتمل «خطوة جريئة» في هذا المجال.
كلّ هذه السيناريوات والتطلعات يُراد لها أن تصبّ تدريجاً في هدف استراتيجي رئيس هو بناء جدار سياسي وعسكري فاصل بين عالم العرب وعالم الفرس. لذلك تحرص إدارة ترامب على إبقاء قواتها، ومن ثم تعزيزها، في العراق وسورية لمنع تواصلهما جغرافياً وسياسياً وعسكرياً والحؤول دون إقامة جسر بري استراتيجي يمتدّ من طهران وبيروت عبر بلاد الرافدين وبلاد الشام.
باختصار، ممنوع على إيران أن تصل البحر المتوسط أو أن تكون لها قواعد ومرتكزات في سورية ولبنان. هذا الأمر هو مطمع ومطلب أميركيان و«إسرائيليان». من هنا يمكن تفسير تبرّم ترامب ونتنياهو بالإتفاق النووي. ذلك أنّ إقراره في مجلس الأمن أعطاه بُعداً دولياً وأدّى إلى رفع العقوبات عن إيران ومكّنها من توظيف المزيد من الموارد والطاقات في صناعتها الصاروخية، وبالتالي في إنتاج صواريخ متقدمة يتجاوز مداها «إسرائيل» ويطاول جميع القواعد الأميركية في منطقة غرب آسيا.
أميركا، كما «إسرائيل»، تعرفان أن ليس لدى إيران قنابل ذرية وأنها ليست جادة في امتلاكها، وان لا سبيل اصلاً الى استعمال السلاح النووي نظراً لخطره الكارثي المدمّر على الاطراف التي تستعمله برغم التفاوت الكمّي لصالح بعضها في هذا المجال. لكن أميركا و«إسرائيل» تعرفان ايضاً انّ إيران قادرة على تعويض نقصها في الأسلحة النووية بكمية الصواريخ الضخمة التي تمتلكها، للمدى المتوسط وللمدى البعيد، وبالقوة النارية الهائلة التي يمكن أن تتولد عن استعمالها، ولا سيما اذا ما تمكّنت طهران، بالتفاهم مع دمشق، من إقامة قواعد معدَّة لإطلاقها غير بعيدة من «إسرائيل».
هكذا تتضح أسباب نزوع ترامب والمنظومة السياسية والعسكرية الأميركية إلى ترفيع إيران وقوى المقاومة الى مرتبة العدو الأول والأفعل لأميركا و«إسرائيل»…
(البناء)