الخطوط الأمامية للحرب الباردة بين قطر والسعودية سايمون هندرسون
“فورين بوليسي“
28 أيلول/سبتمبر 2017
لا يبدو أن الخلاف الدبلوماسي بين قطر وحلفائها العرب السابقين – السعودية والإمارات والبحرين ومصر (الذين أطلقوا على أنفسهم اسم اللجنة الرباعية لمكافحة الإرهاب)، يسلك طريق الحل. أو على الأقل هذا ما تبيّن لي خلال زيارتي الخاطفة إلى لندن والبحرين وأبو ظبي ودبي خلال الأسبوع الثالث من أيلول/سبتمبر. ويزداد بدلاً من ذلك التصعيد في المواقف ويترافق مع تجاهل مؤلم للأفضلية التي يمنحها ذلك لإيران، العدو المشترك لجميع الأطراف، بما فيها قطر، وللتأثير المحتمل الذي سيخلّفه في واشنطن حيث ترتكز السياسة الأمريكية بشأن الخليج العربي على فكرة أن حلفاءها الخليجيين سيحافظون على الأقل على مظهر الوحدة.
وصدرت عن واشنطن رسائل متباينة أربكت الجهود الدبلوماسية المبذولة لحلّ هذه الأزمة. ولم يألُ وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون جهداً في السعي إلى الوساطة بدعم من وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس. وسُرّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على الأقل حتى وقت قريب، بدعمه الظاهر لموقف السعودية والإمارات ولكنه قد يكون قد اغتاظ عندما لم تسفر مساعيه لتنظيم مكالمة هاتفية لإحلال السلام بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني سوى إلى المزيد من الحقد والضغينة. وحمّل كل طرف مسؤولية الانهيار على الطرف الآخر.
وتدور الأزمة ظاهرياً حول العديد من الخطايا القطرية – وأصدرت “اللجنة الرباعية لمكافحة الإرهاب” قائمة شملت 13 مطلباً في مطلع حزيران/يونيو، ركزت على التدخل المزعوم في شؤونها الداخلية. وبما أن المنطقة المعنية هي الشرق الأوسط يلعب أيضاً كبرياء الأطراف المتنافسة دوراً كبيراً. ويهيمن على الجهات الفاعلة المعنية من جهة ولي العهد السعودي الطموح محمد بن سلمان وحليفه ومرشده الدبلوماسي ولي عهد أبوظبي والقائد الفعلي للإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد. ويبرز من جهة أخرى أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، الذي يُحتمل أن يكون بيدقاً في يدي والده الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أو لا يكون كذلك، الذي كسر التقاليد العربية عندما تنازل لصالح ابنه قبل أربع سنوات ولكنه لا يزال شخصية مهيمنة في الدوحة.
وعلى الرغم من الحظر التجاري المفروض على قطر وإغلاق المجال الجوي وطرق الشحن إليها، تدور المعركة الرئيسية في الوقت الراهن في ميدان العلاقات العامة. وينفق الجانبان ملايين الدولارات لإثبات أحقية قضيتهما: ففي واشنطن تتعاقب الإعلانات المناهضة لقطر بشكل دوري على محطة “سي أن أن”، وعُرضت في نيويورك دعاية مضيئة على جوانب ناطحات السحاب خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في الأسبوع الثالث من أيلول/سبتمبر. ولهذا السبب سافر كاتب هذه السطور إلى لندن حيث عُقد في 14 أيلول/سبتمبر “المؤتمر العالمي للأمن والاستقرار في قطر” في فندق “أو تو إنتركونتيننتال” [Intercontinental O2 ] الذي يقع على شبه جزيرة نائية في الضفة الجنوبية القديمة الطابع لنهر التايمز. وشكّل هذا المؤتمر اجتماعاً للمعارضة القطرية دعمته كما يُفترض السعودية والإمارات ولكن دون إثباتات ملموسة لذلك. ورغم ذلك، قدّم أحد ما تمويلاً وافراً. وكانت الإجراءات الأمنية مشددة ولكنها بالتأكيد لم تكن ضرورية نظراً لغياب المتظاهرين المؤيدين لقطر. واتّسم البرنامج بالسطحية والتكلف كما ثبت من الوثيقة السميكة التي وُزعت على جميع الحاضرين.
أما زعيم المعارضة الذي منح نفسه هذا اللقب فهو رجل الأعمال القطري المنفي خالد الهيل البالغ من العمر 29 عاماً. ويتميّز الهيل بابتسامته العريضة ومصافحته القوية واقتباساته الجاهزة لإدانة جماعة «الإخوان المسلمين» التي مُنح لبعض أعضائها ملاذاً في الدوحة. وقد يتمتّع أيضاً بالوزن ولكن ليس بالهيبة الضرورية لهذا الدور بالرغم من الأهمية المصطنعة التي يمنحه إياها حارساه الشخصيان ذوا البنية الضخمة. (أفادت مجلة “الإيكونوميست” أن “منظمة العفو الدولية” اتهمت شركة بناء يكون فيها الهيل الشريك القطري بعدم تسديد أجور عمّالها إلا أنه نفى هذه التهمة). وحضر المؤتمر أيضاً علي الدهنيم وكُتب ببساطة على بطاقة تعريفه كلمة “ضيف” وعرّف نفسه كنائب زعيم المعارضة. وأفاد أنه ضابط سابق في الاستخبارات القطرية ولكنه لم يكن مستعداً لتقديم المزيد من المعلومات نظراً لطبيعة عمله.
وكان من بين المتحدثين العديد من السياسيين البريطانيين المخضرمين الذين لم تكن اهتماماتهم بقطر معروفة لي من قبل. وقَدِم بعض الأمريكيين وحتى إسرائيلي لهذه المناسبة وتلقى بعضهم الدعوة قبل ثلاثة أيام فقط من الحدث. وضمت المجموعة المسؤول السابق في البنتاغون (ومساهم في “فورين بوليسي”) دوف زاكهايم، والسفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة بيل ريتشاردسون، والجنرال المتقاعد في القوات الجوية الأمريكية تشاك والد. وأدار إحدى الجلسات المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية السابق جيمس روبين. وأجرى المراسل المخضرم لقناة “بي بي سي” جون سيمبسون مقابلة مع الصحفي السابق لدى قناة “الجزيرة” محمد فهمي الذي كان مُحتجزاً في سجن مصري ولكنه يلوم قطر على ذلك. وكما كان متوقعاً، كان المؤتمر منحازاً لجهة واحدة. فعلى سبيل المثال انتقد فهمي بشدة التدخل السياسي القطري الشائن في قناة “الجزيرة” على الرغم من أن سيمبسون تجنّب بطريقة أو بأخرى أن يسأله عن كيفية مقارنتها مع محطات التلفزيون العربية الأخرى. وبدا أن القوة المحرّكة لهذه المناسبة كانت تهدف إلى صياغة مضمون النقاش وليس فرض إجراءات سياسية. وسألتُ أحد منظمي المؤتمر عن سبب غياب الشيخ عبدالله بن علي آل ثاني، عضو الأسرة الحاكمة الذي تعدّه السعودية على ما يبدو كأمير بديل. فنظر إليّ باستهجان قائلاً: “لكان ذلك أكثر من اللازم“.
وبعد يومين، أصبحت الأزمة القطرية موضوع الحديث في أروقة مؤتمر اقتصادي في المنامة، عاصمة البحرين، هذه الجزيرة الخليجية التي يمكن منها رؤية شبه الجزيرة القطرية (عندما يزول الضباب البحري الناجم عن الحرارة والرطوبة العاليتين جداً). وحالياً أصبح نشر أخبار موالية لقطر عملاً غير شرعي؛ وفي ذلك اليوم نشرت صحيفة “غولف ديلي نيوز”، التي تصف نفسها بأنها “صوت البحرين”، مقالة مناهضة لقطر على كل من صفحاتها الثلاث الأولى. وخلال مأدبة غداء أعرب أحد أبرز أعضاء عائلة آل خليفة الحاكمة في البحرين عن ثقته بأن الضغط الذي تتعرّض له قطر سيؤدي إلى تراجع الدوحة عن موقفها. وشكّل ذلك اعتقاداً راسخاً وليس حجة منطقية ومبررة.
وتوضّحت الفجوة بين الخطابة والواقع عندما سافرتُ من المنامة إلى أبوظبي على متن إحدى طائرات شركة الطيران الوطنية في البحرين، “طيران الخليج”. وأظهرتْ الخريطة المتحركة على ظهر المقعد أمامي أن الرحلة تمر عبر شمال قطر. ولا بدّ من الإشارة إلى أن البحرين تحظر مرور طائرات “الخطوط الجوية القطرية” في مجالها الجوي ولكنها وضعت استثناءاتها الخاصة فيما يتعلق بالحركة الجوية مباشرة بعد إعلان الحصار، وذلك للحد من أي تأثيرات مضرة بها. وبالمثل، فعلى الرغم من تجميد العلاقات، لا يزال تكييف الهواء والإنارة مستمرّين في دبي لأن قطر تواصل تصدير الغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب إلى محطات توليد الطاقة الكهربائية الإماراتية.
وقد طلبتُ من بعض أبرز الخبراء المراقبين لشؤون الخليج في المنطقة تفسير توقيت وشدّة الأزمة التي اندلعت في أواخر أيار/مايو بعد أيام قليلة من إشادة ترامب بوحدة الخليج في قمة الرياض. وأجمعوا على أن الأزمة كانت لتندلع في أي وقت لأن الجانبين كانا يستعدان للمواجهة. ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن لسان مسؤولين أمريكيين لم تكشف عن أسمائهم أن الإمارات العربية المتحدة كانت قد علِمَت قبل أسابيع عن كيفية قرصنة “وكالة الأنباء القطرية” لبث أخبار زائفة موالية لإيران. وعلى نحو مماثل، تعرّض حساب البريد الإلكتروني (Hotmail) الخاص بالسفير الإماراتي لدى الولايات المتحدة يوسف العتيبة لاختراق على يد قراصنة يعملون لصالح قطر. (وتوخياً للإفصاح الكامل: تشمل مجموعة حديثة من رسائل العتيبة الإلكترونية المقرصنة ملفاً مضغوطاً يتعلق بكاتب هذه السطور. فقد أفسد الملف الذي يحمل اسم “سايمون هيندرسون” (Simon Hinderson) لحظة مجدي كما يُقال. ولكن بعيداً عن الخطأ الإملائي لا يبدو أن المضمون مضرّ بأي منا. فمستشار العلاقات العامة التابع له يشكو مما أكتبه وهذا رأي أنا مستعد للعيش معه).
ويكمن أحد العوامل الرئيسية لمعرفة مدى استمرار الأزمة في درجة الضرر الاقتصادي الذاتي. ويفيد المحللون أن قطر عرضة لأن تصبح ضعيفة: فما يزال أمام الدوحة الكثير من العمل الذي يتعين عليها القيام به استعداداً لاستضافة “كأس العالم لكرة القدم” عام 2022. وقد توقف استيراد مواد البناء، ولكن المواد الغذائية وغيرها من المواد الأساسية لا تزال تأتي عبر إيران، وكذلك الكويت وعُمان. ويعاني اقتصاد البحرين من عجز مقلق في الميزانية، ولكن السعودية ستخفّف من أثر أي خسائر. وستستضيف دبي، المدينة الثانية في الإمارات، معرض “إكسبو 2020″، ويُعتقد أن حاكمها الشيخ محمد بن راشد يشعر بالقلق من الضرر الذي ستلحقه أزمة قطر بـ “براند دبي” – وهو الطابع الفريد المرسّخ بعناية لإمارة تستقبل الأجانب من مخلف أصقاع الأرض في مكان يتّسم بالمرح والسلام والأمان. وأما السعودية، التي شكّلت في السابق ممراً للنقل البري القطري، فقد أغلقت حدودها. وإذا كانت الشركات السعودية تعاني من عواقب هذه الإجراءات، فهي تلتزم الصمت حول هذا الموضوع.
ويمكن القول إن الأمر يتوقّف على من يرضخ أولاً من اللاعبين الرئسيين، أي محمد بن سلمان أو محمد بن زايد أو الأمير تميم. ويُعتبر محمد بن سلمان، الذي يبلغ من العمر 32 عاماً فقط، شديد الثقة بنفسه بشأن جميع خياراته السياسية. ولكن في النهاية قد لا يرغب في عرقة ما يعتبره بوضوح كحقه الطبيعي، أي العرش السعودي. ومحمد بن زايد الذي يبلغ من العمر 56 عاماً فهو إذاً أكبر سناً وأكثر صرامة ولكنه قد يتعرّض للضغط من قبل حاكم إمارة دبي محمد بن راشد. (ومن بين الرجلين، يُعتبر ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد اللاعب الأكثر أهمية، على الرغم من تفوق السعودية من ناحية الحجم والثروة). أما أمير الدوحة تميم الشاب أيضاً فيبلغ من العمر 37 عاماً ولكنه قد يرغب في التخلّص من الظل المهيمن لوالده. وقد يمنح تشجيع الأمير الوالد على قضاء المزيد من الوقت في جزيرته اليونانية الخاصة أو على متن يخته حرية مناورة أكبر لتميم من دون مظاهر الإذعان. (ويشير أحد محللي الخليج إلى عامل هام آخر ولكنه لا يبشر بالتوصل إلى حل سريع ويقوم على والدات اللاعبين الرئيسيين الثلاثة اللواتي يُعتبرن متشددات في رغبتهن في حفاظ أبنائهن على الشرف الوطني – وإرث أزواجهن).
ولكن بما أن الدعم الذي تقدّمه الولايات المتحدة للرياض يزيد من اللوم الملقى على عاتق إدارة ترامب بسبب ظهور المجاعة وانتشار الكوليرا الواسع النطاق في اليمن، يبدو أن الأزمة الخليجية تُشتت الانتباه عن التهديد الأكبر الذي تمثّله إيران. (على الرغم من الادعاءات السعودية والإماراتية، فإن قطر أبعد ما تكون عن كونها حليفاً لإيران). وبالفعل يُنظر إلى الفوضى القطرية في واشنطن والعواصم الأوروبية كمسايرة صبيانية تقريباً. ومع ذلك، فإن الدبلوماسية متوقفة. ولا يبدو حتى أن احتمال انعقاد القمة المقبلة لدول «مجلس التعاون الخليجي» – حيث سيجتمع قادة السعودية والامارات والبحرين وعُمان والكويت وقطر – قد يُرغم على اتخاذ إجراءات. إن الرابحين الوحيدين حتى الآن هم مجموعات الضغط التي تجني أموالاً طائلة من خلال تقديم المشورة، ووضع الاستراتيجيات، وإعداد مواقع المعارضة الإلكترونية ومؤتمراتها. ولم تبدو عبارة “قطاع الطرق” التي تُطلق على هذه المجموعات أكثر ملاءمة من الآن. ويظن محمد بن سلمان ومحمد بن زايد أن باستطاعتهما الانتظار وإرغام تميم على تقديم تنازلات، حتى لو كانت مؤلمة. وفي غضون ذلك يتحرّق مستشاروهم شوقاً لاحتمالات الحصول على مكافآت كبيرة في نهاية العام وربما في عام 2018 أيضاً.
– سايمون هندرسون هو مدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن.