مقالات مختارة

ملاحظات حول الإرباك الأميركي في السياسة الخارجية: د. زياد حافظ

 

يفتتح بول كريغ روبرتس إحدى مقالاته الأخيرة بسؤال: هل يوجد في إدارة ترامب من هو ليس غبيا؟ وبول كريغ روبرتس مساعد وزير المالية الأميركي السابق في عهد الرئيس ريغان، هو اقتصادي مرموق وصاحب مدوّنة واسعة المتابعة كما يكتب في العديد من المواقع الإلكترونية الأميركية، له آراء عديدة مميّزة في السياسة والاقتصاد. سؤال روبرتس يعود إلى التصريحات الغربية للمسؤولين الأميركيين وخاصة نيكي هالي سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة (يبدو أنه هناك إجماع عند المراقبين الدوليين وحتى الأميركيين على عدم كفاءتها وعلى جهلها في السياسة الخارجية) ووزير الخزينة ستيفن منوخين .

بالنسبة للسفيرة هالي فما زالت تروّج لفكرة ضرورة نقض الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران على أساس أن الأخيرة خالفت معظم بنود الاتفاق رغم إفادات الوكالة الدولية للطاقة التي تؤكّد على التزام إيران بكافة البنود. جاء ذلك في محاضرة ألقتها في معهد أمريكان انتربرايز انستيتوت، معقل المحافظين الجدد. لم تخل المحاضرة من التضليل والكذب المكشوف كما أبرزه المحلل الأميركي ريان كوستيلو على موقع “انفورماشن كليرينغ هوس″ الإلكتروني الذي يجمع مقالات لكتاب ومحلّلين مرموقين مناهضين لخط الاعلام المهيمن وصاحب الرأي الواحد. كما أن السفيرة هالي ما زالت مصرّة على رحيل الأسد للقبول بحلّ سياسي يرضيها! جاء ذلك في تعليق لها على خبر اتفاق أستانا 6 حول تخفيض التوتر في مدينة إدلب. والغريب في ذلك أن موقف حكومة الرياض في هذا الموضوع يختلف كثيرا عن موقف السفيرة هالي. فلا نعرف إذا ما كانت تنطق باسم الخارجية الأميركية أو تعبّر عن موقف البيت الأبيض أو عن مجموعة المحافظين الجدد التي أصبحت تنتمي إليهم أو عن رأيها الشخصي. بالمقابل ليس وزير الخارجية ريكس تيللرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس على نفس الموجة مع السفيرة هالي، وهذا ما يربك المجتمع الدولي حيث لم يعد من السهل معرفة ما هو موقف الإدارة الأميركية الفعلي في مختلف القضايا.

الإشارة الثانية لبول كريغ روبرتس هو التهديد الفارغ والأحمق لوزير الخزينة ستيفن منوخين الذي هدّد الصين بمنعها من الاستفادة من النظام المالي الدولي للدولار. وبالفعل، فإن هذا التهديد يتجاهل وقائع عديدة منها حجم الدين العام الأميركي الذي وصل إلى عتبة 20 تريليون دولار ما يؤكّد الإفلاس الفعلي وليس الافتراضي فقط للدولة الأميركية. وهذا الحجم من الدين أجبر الرئيس الأميركي على الموافقة على اقتراح خصومه الديمقراطيين برفع سقف الدين العام وإلاّ لتوقفت الإدارة الأميركية عن العمل. وتهديد منوخين لا يأخذ بعين الاعتبار أن الحامل الأكبر لسندات الخزينة الأميركية هو الصين! فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تستمر في سياسة الاقتراض، أي الدين العام، دون مساعدة الصين على شراء تلك السندات إذا أصبحت ممنوعة من المشاركة في نظام الدولار الدولي؟ من جهة أخرى فإن ذلك التهديد يثبّت جدوى قرار الصين، ومعها شركائها في مجموعة البريكس على التسريع في إيجاد نظام دولي خارج هيمنة الدولار. وبالفعل باشرت الصين منذ فترة على تسعير صادرتها باليوان وتسعير استيرادها من النفط والغاز بعملات الدول المصدّرة لها كالروبل الروسي. كما فتحت أسواقها المالي لدول الحوض الهادئ، وهي حليفة الولايات المتحدة، بالمتاجرة في أسواقها، ما يعزّز مكانة اليوان. وصندوق النقد الدولي أعلن منذ بضعة أسابيع أن اليوان الصيني أصبح عملة احتياط دولية ما يعزّز المكانة الصاعدة للصين في العالم المالي والنقدي. ونشير هنا أن كل من الصين وروسيا يخزّنان الذهب تمهيدا لإقامة نظام نقدي جديد يرتكز إلى الذهب ويخفّف من اللجوء إلى الدولار كاحتياط نقدي دولي أوحد.

من جهة أخرى، يتجاهل الوزير الأميركي أن الشركات الأميركية العاملة في الصين والتي تصدّر منتوجاتها إلى الولايات المتحدة ستصبح عاجزة عن تمويل صادراتها ما يضرب المصالح الحيوية لتلك الشركات. والوزير الأميركي يجهل أن نفوذ تلك الشراكات داخل الإدارة الأميركية، بل الدولة العميقة، أكبر بكثير من نفوذه خاصة وأنه يتعرّض الآن إلى انتقادات حول سلوكه في استعمال المال العالم لأغراض شخصية كقضاء شهر العسل على حساب المكلّف الأميركي! لكن ما يحمي منوخين هو صهر الرئيس الأميركي واللوبي الصهيوني. لكن سرعان ما سيتبّن أنه عبء على الرئيس الأميركي فلن يتردّد الأخير في التخلّص منه.

وهناك تباين كبير بين الدبلوماسية الأميركية والدبلوماسية الروسية والصينية في مقاربة ملف الأزمة الكورية. التباين الأول هو أن الديبلوماسية الروسية والصينية متماسكة بينما الدبلوماسية الأميركية عشوائية. التباين الثاني هو أن رأس الدبلوماسية الروسية والصينية معروف بينما يضيع المرء في تحديد من هو المتكلّم باسم السياسة الخارجية الأميركية. فهناك رأس الهرم الرسمي أي وزير الخارجية ريكس تيللرسون. لكن في كثير من الأحيان تتجاوزه مأمورته السفيرة في الأمم المتحدة نيكي هالي. كما أن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس أصبح فعليا من يحدّد الخيارات الدبلوماسية وغيرها يؤازره مستشار الأمن القومي هربرت مك الستير. ومواقف الثلاثة تتناقض في كثير من الأحيان مع تصريحات الرئيس أو سفيرته في الأمم المتحدة. فالمفاوض الروسي أو الصيني لم يعد يعرف مع من يتعامل. أضف إلى كل ذلك تصريحات الرئيس الأميركية ليلا ونهارا يضع بها الجميع أمام الأمر الواقع فيضع أعضاء إدارته في حرج تتحوّل مهمة المسؤولين إلى الترقيع والتصحيح بدلا من التركيز على صوغ سياسة متماسكة. فلا ندري إذا ما كان يخاطب المجتمع الدولي أو قاعدته الانتخابية بعد فقدانه الثقة بالحزب الجمهورية والاعلام المهيمن.

الخطوط الحمراء التي تحاول الإدارة الأميركية رسمها وفرضها في مختلف الميادين أصبحت غير ذي جدوى. ففي الميدان السوري أخفقت الولايات المتحدة في منع تقدّم الجيش السوري رغم الخطوط التي رسمتها. فالإخفاق الميداني العسكري الأميركي يعكس الإخفاق السياسي حيث بات واضحا أن الخلل يكمن في التباين بين رغبات الولايات المتحدة وقدراتها على تحقيقها في مختلف الميادين، ومن هنا الإرباك. فمكوّنات الإرباك ثلاثة: المكوّن العسكري من حيث عدم الجهوزية العسكرية للقيام بعمل واسع يحقق أهدافا سياسية؛ المكوّن السياسي حيث يغيب تقدير موقف لموازين القوّة بين مختلف الأطراف المتصارعة في مختلف الساحات السياسية وذلك بسبب رداءة القيادات السياسية الرسمية وداخل الدولة العميقة؛ وأخيرا المكوّن الاقتصادي حيث تراجع الأداء الاقتصادي للولايات المتحد أفقدها الكثير من أوراق الضغوط.

أضف إلى ذلك التناقضات في المواقف. فكلمة الرئيس الأميركي في اطلالته الأولى أمام ممثلي الدول في الأمم المتحدة لم تخل من التناقضات الصارخة. كرّر الرئيس الأميركي “احترامه” للسيادة في مختلف الدول بينما كان يهدّد بالإبادة الجماعية لكوريا الشمالية وقلب النظام في فنزويلا ومعاقبة الجمهورية الإسلامية في إيران. بالمقابل لم يتفوّه بكلمة تجاه روسيا! فهناك على ما يبدو دول لها سيادة منقوصة بينما دول أخرى تتمتّع بسيادة كاملة! كما تجاهل انتهاكات الولايات المتحدة السابقة والحالية لعدد من الدول كإيران والانقلاب على مصدّق واحتلال العراق بادعاءات كاذبة، والعدوان اليومي على اليمن والصومال وأفغانستان واستمرار القواعد العسكرية في كل من كوريا الجنوبية واليابان وألمانيا إلخ. فهل هناك من يصدّق الكلام الأميركي فيما بعد؟

خطاب الرئيس الأميركي في الجمعية العامة للأمم المتحدة نموذج عن الإرباك الأميركي. فمن جهة هناك لهجة تصعيدية أو عنتريات فارغة تجاه كل من كوريا الشمالية والجمهورية الإسلامية في إيران وفنزويلا (محور الشر الجديد؟!) تنذر بعمليات عسكرية ضخمة ومن جهة أخرى يسارع وزير الخارجية تيللرسون على تخفيف حدّة مضمون الخطاب الرئاسي. والمحلّلون الأميركيون يتساءلون فيما لو أقدم الرئيس الأميركي على المضي بتهديداته وتنفيذها فما هي النتائج المرتقبة؟ هناك شبه إجماع أن الكلفة ستكون باهظة بالأرواح والدمار فيما يتعلّق بالكوريتين الشمالية والجنوبية، وهناك احتمال جدّي أن المواجهة العسكرية لن تكون محصورة بكوريا الشمالية إذا ما قرّرت الصين منع سقوط الدولة والنظام.

فالدولة العميقة في الولايات المتحدة لا تريد المجابهة الشاملة ولكنّها تحبّذ التوتّر المستمر الذي لا يتجاوز سقفا محدّدا. فهذا النوع من التوّتر يبقي بل يزيد الانفاق على المؤسسات العسكرية والمجمّع العسكري الصناعي. هناك منفعة مباشرة من سياسة التوتّر المضبوط الإيقاع. وفي رأينا لا نستبعد أن الكلام العالي تجاه كوريا الشمالية هو كلام موجّه في الأساس للصين. فالصين هي التي تنافس بجدّية الولايات المتحدة بينما كوريا الشمالية لا تشكّل تهديدا لها. وبالتالي، ضمن عقلية البلطجي، فلا تستقوى الولايات المتحدة إلاّ على من تعتقد أنهم أقل قوّة منها للعبث بها. بالمقابل الصين رقم صعب لا تستطيع مواجهته بشكل جدّي. فيصبح الكلام حول كوريا الشمالية كالمثل في العامية: يا جارة، خلّي الكنّة تسمع!

كما أن التحالف الاستراتيجي مع روسيا يجعل الأخيرة طرفا في الصراع في شرق آسيا وكوريا الشمالية مجاورة للاتحاد الروسي. فهل الدولة العميقة في الولايات المتحدة مستعدّة لتلك المجابهة؟ معظم المؤشرات تشير إلى عدم إمكانية الحل العسكري في الوقت الراهن. فجهوزية القوّات المسلّة الأميركية لا تسمح بعمليات واسعة وطويلة المدى ضد خصم قوي ومدرّب كما صرّحت مختلف القيادات العسكرية الأميركية في جلسات الاستماع في الكونغرس الأميركي في شهر شباط/فبراير من العام الحالي. كما أن مؤسسات أبحاث متعددة منها معهد التراث الأميركي (أمريكان انتربرايز انستيتوت) المحافظ والمرموق يعتبر أن فعّالية القوّات المسلّحة هامشية في أحسن الأحوال. ونذكّر هنا بتصريح ستيف بانون المستشار الاستراتيجي الأسبق للرئيس ترامب أنه ليست هناك من حلول عسكرية ناجعة، ويشاطره إلى حدّ كبير وزير الدفاع الأميركي جون ماتيس الذي كرّر وجود حلول عسكرية دون أن يفصح عنها وعن نتائجها ما يشير إلى عدم جدّية الموقف.

نلاحظ أن الولايات المتحدة فشلت حتى الآن في تجنيد حلفائها الإقليميين ككوريا الجنوبية المعنية بالدرجة الأولى واليابان بالدرجة الثانية بسبب التداعيات الكارثية عليها من أي مواجهة عسكرية. فبرودة المواقف الكورية الجنوبية واليابانية تدلّ على أن التوافق على مجابهة عسكرية غير موجود حتى الآن. فإذا كانت الوقائع المادية تشير إلى عدم إمكانية وقوع مجابهة عسكرية إذا ما استبعدنا حماقة ما من الطرف الأميركي (ولا يجب أن نقلّل من قيمة الحماقة والجهل) فما قيمة الكلام العالي غير التعبير عن العجز الفعلي؟ نشير هنا أن خطاب الرئيس الأميركي لم يخل من “شروط” للمواجهة العسكرية أي أنها ستقوم بتنفيذ تهديداتها إذا ما أقدمت كوريا الشمالية على الاعتداء على الولايات المتحدة!

الجدير بالذكر أن منذ الخمسينات من القرن الماضي الاعتداءات على كوريا الشمالية هي من قبل الولايات المتحدة. فالحصار الاقتصادي هو إما لتغيير النظام القائم في كوريا ألشمالية أو لتجويع سكّانها. فثقافة الإبادة الجماعية في الولايات المتحدة ثقافة مترسخّة تعود إلى نشأة الدولة الأميركية وامتدت إلى القرن العشرين والحادي والعشرين. لا ننسى تدمير هيروشيما ونغاساكي اللتين لم تشكّلا أي قيمة عسكرية كهدف استراتيجي أو تدمير مدينة درسدن الألمانية التي لم يكن لها أي قيمة عسكرية، وتجويع وقتل أطفال العراق إبان الحصار المفروض عليه منذ 1991 وكلام وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت أن قتل 500 ألف طفل عراقي كان مبرّرا. ولا يمكن أن ننسى قتل أكثر من 10 مليون عربي ومسلم خلال العقود الثلاثة الماضية من قبل مختلف الإدارات الأميركية. فالسياسة الخارجية الأميركية هي سياسة القتل الجماعي لأنها لا تملك أي شيء يمكن أن تعرضه لمختلف الشعوب.

يبقى من كلام الرئيس الأميركي تهديده لفنزويلا التي يعتبرها معزولة دوليا وغير مستقرّة داخليا بسبب “معارضة” مدفوعة وطيّعة للولايات المتحدة. قد تقدم الإدارة الأميركية على ارتقاب حماقة ما في فنزويلا ولكن ليس من المؤكّد أن يكون حسابها في الحقل متطابقا مع الحساب في البيدر.

الولايات المتحدة تجيد قتل الناس ولكنها لا تعرف كيف تكسب الحروب. الكيان الصهيوني يجيد قتل الناس ولكن لا يستطيع هزيمة المقاومة في لبنان أو في فلسطين. هذه الحقيقة لم يستوعبها الرئيس الأميركي ولا حتى النخب الحاكمة في الدولة العميقة. فما زال يعتقد، ومعه الدولة العميقة، أن الإنفاق على الآلة الحربية يؤمّن له الانتصار. ما جاء في خطابه أنه سينفق 700 مليار دولار على القوّات المسلّحة يعكس عجزه عن استيعابه لدروس التاريخ. الجنرال الفيتنامي جياب الذي هزم الولايات المتحدة كان يردّد أن الولايات المتحدة تلميذ غير نجيب لأنها لا تتعلّم من أخطائها ومن التاريخ. الحرب الأخيرة التي ربحتها الولايات المتحدة. هي الحرب العالمية الثانية وذلك بسبب تحالفها مع الاتحاد السوفيتي الذي ربح الحرب في الميدان العملياتي الأوروبي. فدور الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لم يتجاوز 20 بالمائة من العمل لهزيمة النازيين وهذا ما تؤكّده مختلف الوثائق العسكرية. الولايات المتحدة ربحت في المحيط الهادي بعد أن أنهكت الحرب اليابان فأقدمت على الإبادة في كل من هيروشيما ونغاساكي. أما بعد ذلك فلم تستطع الولايات المتحدة ربح أي مجابهة مع خصم قوي. “تعادلت” في الحرب الكورية رغم قيادتها لحلف الأمم المتحدة. هّزمت في فيتنام، وهّزمت في العراق رغم تدمير العراق فاضطرت إلى الخروج. لم تربح الحرب في أفغانستان رغم استمرار الحرب لأكثر من 15 سنة. اضطرت إلى الانسحاب من لبنان ومن الصومال بعد الهجوم الاستشهادي على قوّاتها في مطار بيروت، وهجوم المجاهدين الصوماليين على محاولات الانزال في مقديشو. بالمقابل انتصرت على الجزيرة الصغيرة غرناطة شبه المنزوعة من السلاح، وعلى بناما المسالمة لاقتلاع مانويل نوريغا رجل المخابرات المركزية الأميركية. أما في العراق لم تستطع هزم القوّات النظامية إلاّ بعد حصار امتدّ على عشرة سنوات ما سبّب اتلاف العديد من العتاد العراقي ولكن رغم ذلك لم تصمد أمام المقاومة الشعبية التي أرغمتها في آخر المطاف على الانسحاب. فبطولات القوّات المسلّحة الأميركية نراها أكثر في الأفلام بينما في الواقع نتائجها متواضعة. نسرد كل ذلك للتأكيد أن أي مواجهة عسكرية جدّية قد تلحق الهزيمة بالولايات المتحدة وإن كانت كلفة المواجهة كبيرة. بالمقابل فإن الاستسلام للولايات المتحد أمر قاتل.

(رأي اليوم)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى