بقلم غالب قنديل

كيف انتصر لبنان على الإرهاب التكفيري؟

لا نبحث في شؤون الإرهاب بالمطلق، بل موضوعنا الراهن هو الإرهاب الذي يضرب منطقتنا، أي أنه الإرهاب التكفيري الذي أطلقته نظرية بريجنسكي عن استخدام الإسلام لاستنزاف الاتحاد السوفياتي خلال تسعينيات القرن الماضي، كما روى بنفسه في الكتابات التي وثق بها عمله المشترك مع المملكة السعودية في هذا المجال من خلال سفيرها السابق في واشنطن الأمير بندر بن سلطان

.

تلك الخطة استندت إلى احتياط بشري في حشد المقاتلين من التنظيمات الطالبية والشبابية للتنظيم العالمي للأخوان المسلمين إضافة إلى الجماعات الوهابية في الخليج وشبه الجزيرة العربية وتكفلت المؤسسة الوهابية بعدئذ بإنشاء المعاهد التي تعبئ الشباب المجنّدين في معسكرات باكستان بشحنهم عقائدياً وإعدادهم للقتل تحت عنوان مكافحة الشيوعية وحشد يومها خمسة عشر ألف مقاتل من جنسيات متعددة، وضعوا بإمرة مكتب المجاهدين الذي أسندت قيادته إلى أسامة بن لادن، أما التمويل فقد روى محققون وموظفون سابقون في الاستخبارات الأميركية أنه كان من عمولات صفقات السلاح السعودية الأميركية والبريطانية والفرنسية التي حوّلت إلى باكستان ثم نقلت نقداً إلى معقل بن لادن ومعسكراته. وهكذا ولدت نواة القاعدة وداعش من بعدها وتمّ الحفاظ عليها كقوة احتياطية لخطط الهيمنة الاستعمارية طيلة أربعين عاماً.

هذا الإرهاب التكفيري الذي ولّدته شراكة أميركية سعودية معلنة استهداف لبنان منذ التسعينيات، وقبل انطلاق العدوان على سورية عام 2011 بسنوات عديدة، فقد اغتالت مجموعة وهابية متطرّفة الشيخ نزار الحلبي عام 1995 ثم عام 1999 اغتيل القضاة الأربعة في صيدا وبيّنت التحقيقات مع موقوفي داعش مؤخراً أن لتلك العناصر علاقة بالجريمة وعام 2000 ظهرت قوة إرهابية تكفيرية في جرود منطقة الضنية في الشمال اللبناني وتبين أن قائدها «أبو عايشة» الذي قتل في معركة مع الجيش اللبناني وكان حائزاً على وسام أميركي رفيع، عندما زار البيت الأبيض في عداد وفد من مكتب مجاهدي أفغانستان القاعدة لاحقاً خاطبه الرئيس الأسبق رونالد ريغان بلقب «فرسان الحرية».

وقعت لاحقاً معارك نهر البارد، المخيم الفلسطيني الذي ظهرت فيه عصابة تكفيرية أخرى اسمها فتح الإسلام. كل ذلك كان قبل العدوان على سورية بسنوات، ولكن بكل وضوح بدأ الإعداد للعدوان على سورية منذ اندحار الاحتلال «الإسرائيلي» عن جنوب لبنان من دون قيد أو شرط عام 2000، فقد كان الحدث التاريخي انتصاراً للمقاومة التي قادها حزب الله بالتلاحم والشراكة مع الجيش اللبناني، وبفضل الالتفاف الشعبي ونتيجة المساندة السورية الواضحة وسقف الحماية الذي فرضه الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكذلك بفعل الدعم الإيراني لذلك شرع المخططون الأميركيون بعد هزيمة تموز 2006 يتطلعون للنيل من هذا المحور القاهر لتعويض هزائم «إسرائيل» وتقرّر على هذا النحو شنّ الحرب على سورية والمنطقة بواسطة الإرهاب التكفيري.

أقيمت في لبنان منصات إعلامية وأمنية وعسكرية وسياسية لتنفيذ العدوان على سورية. ومنذ العام 2008 بدأ مثلاً تفريخ محطات إذاعية أجنبية ناطقة بالعربية توجّه بثها إلى الداخل السوري بصورة مخالفة للقانون اللبناني، ولكنها حظيت بالحماية السياسية، رغم تقارير المجلس الوطني للإعلام التي رصدت المخالفات وكشفتها وبيّنت عناصرها. وكانت فضيحة الباخرة لطف الله 2 مجرد نموذج عن شحنات السلاح التي أرسلت من ليبيا وغيرها ثم نقلت إلى سورية، كما بينت تحقيقات صحافية محلية وأجنبية، كذلك أقيمت غرف عمليات أمنية على الأرض اللبنانية لقيادة جموع الإرهابيين متعدّدي الجنسيات في الداخل السوري، وتواجد فيها ضباط من فرنسا وبريطانيا والمملكة السعودية وقطر وتركيا، كما روت تقارير صحافية عديدة لا سيما بعد معارك حمص. وتشكلت أيضاً غرف عمليات إعلامية نسقت حملات متواترة ضد الدولة السورية وقواتها المسلحة وأشرف على جانب منها مكتب التواصل الأميركي وموّلتها كل من الرياض والدوحة، وشمل تخديم الحرب على سورية إنشاء شبكات اتصالات متطورة زرعت هوائياتها بداية على الأرض اللبنانية في نقاط حدودية مشرفة.

واجه لبنان هجمات إرهابية خطيرة ومتلاحقة مع ارتداد إرهابيي البؤر والأوكار إلى الداخل اللبناني وتركّزت المجابهة مع هذا التهديد التكفيري المدمّر على كاهل حزب الله وحلفائه من القوى الوطنية المساندة للمقاومة. وقد تمكّن هذا الفريق الوطني بجميع مكوناته من إحباط الفتنة المذهبية التي سعت لإثارتها مجموعة القوى السياسية المتورطة في الحرب على سورية، وبذلك حرم الإرهابيون من حاضنة لبنانية وساهمت في تحقيق هذه الغاية حالة الرفض الشعبي للاقتتال الداخلي، كما بينت معارك طرابلس، وفي بيئة المقاومة سادت ثقافة الصبر على الاستفزاز، بينما عملت القيادات الوطنية يتقدمها الرئيس نبيه بري والعماد ميشال عون وسائر قوى الثامن آذار من أحزاب وزعماء ومرجعيات دينية من جميع المناطق والطوائف على تعزيز الوحدة الوطنية واحتضان الجيش اللبناني الذي تصدّى للإرهاب بالشراكة مع المقاومة، كما فعل في مجابهة العدوان «الإسرائيلي».

خاض حزب الله قتالاً باسلاً ضد الإرهاب التكفيري على أرض سورية بالشراكة مع الجيش العربي السوري، وشكّل ذلك عنصراً حاسماً في تعديل ميزان القوى الإجمالي ضد الهجمة الإرهابية التكفيرية على مساحة المنطقة، وسُمح للبنان بأن يتخلّص لاحقاً من بؤر الإرهابيين التي استوطنت بعض المناطق في الشمال والبقاع. وبقيت من دون شك بعض الأوكار التي تتولى المؤسسات الأمنية والعسكرية الوطنية محاصرتها وتسعى للقضاء عليها. وهذا إنجاز تاريخي ما كان ممكناً لولا مبادرة المقاومة وشراكتها مع الجيش وحكمة قيادتها التي حظيت باحترام وتقدير طيف لبناني واسع وبدعم حلف وطني عريض.

مداخلة ألقيت في الندوة التي عُقدت يوم 26 أيلول في مقرّ مجلس حقوق الإنسان في جنيف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى