فى ذكري رحيله: لماذا بقي”ناصر” حيّاً ؟:رفعت سيد أحمد
هكذا فَهِمَ عبد الناصر قضايا أمّته وهكذا كانت عُصارة سيرته، وتجربته الرائدة، تلك المسيرة والتجربة التي أبقته حيّاً في قلوب شعوب هذه الأمّة، ونحسبه سيظل كذلك-حيّاً- لسنين طويلة .
[إن استحضار النموذج الناصري في التعامل مع الإخوان ومحاولة أخذ العبر والدروس منه يُعدّ في تقديرنا أمراً في غاية الأهمية]
إن استحضار النموذج الناصري في التعامل مع الإخوان ومحاولة أخذ العبر والدروس منه يُعدّ في تقديرنا أمراً في غاية الأهمية
اليوم (28 أيلول /سبتمبر ) تمرّ الذكرى السابعة والأربعين لوفاة الزعيم القومي جمال عبدالناصر ، وفي ظلالها ثمة سؤال يطرح نفسه كلما جاءت سيرته أو ذكراه، خاصة بعد زلزال ما سُمّي بالربيع العربي ؛ لماذا سيظل الرجل كتجربة ومشروع مقاومة لأطماع الغرب في الوطن العربي، حيّاً، رغم مرور السنين ؟!
طرحت إجابات متعددة ومختلفة أحياناً ، لكن ظلت الإجابة الأقرب إلى الصحة هي تلك التي تقول بأن تجربته أسّست لنظرية جديدة في الحُكم ، وفي العمل السياسي والعمل المقاوِم للعدو الصهيوني وللفساد والتبعية ، وأن تلك النظرية هي التي أبقته حيّاً فى وجدان الناس ، وهي التي أبقته حاضراً ، ومؤثّراً في الأجيال التالية على رحيله المُبكر (1970) وهو لم يتجاوز بعد عامه الثاني والخمسين ، لقد قدّم (ناصر) سواء في سيرته الشخصية أو على مستوى إنجازه السياسي والاجتماعي العروبي والمصري نموذجاً للثائر الذي لم تتلوّث يداه بالفساد والتبعية، والاستبداد ، رغم كل ما اتّهم به من المُعادين له في الخارج والداخل؛ لذلك بقي حيّاً، ومؤثّراً على العكس تماماً من حُكّام عرب ذهبوا من دون ذِكْرٍ، ولم يبق منهم في ذاكرة الأمّة شيء يُقدّر أو يُحترم .
لقد قاوم (ناصر) تحديات عدّة ، وخاض معارك طاحنة ضدّ الاستعمار والكيان الصهيوني ، وضدّ الجهل والتخلّف والفقر ، في وطنه وخارجه ضدّ الرجعية العربية والإخوان، وحارب من أجل الوحدة ودافع عن الفقراء وبنى لهم وطناً للعزّة والكرامة رغم الحِصار والتآمر الذي مارسه الأعداء ضدّه طيلة 18 عاماً من حُكمه لمصر؛ لذلك بقي حياً رغم الأخطاء في مسار تجربته الثريّة والتاريخية .
لقد ثبت للجميع وبعد مرور 47 عاماً على رحيل عبدالناصر، أن ما قاله عن مصيرية وحضارية الصراع مع العدو الصهيوني، صحيح، وأن مقولته الأشهر (إن ما أُخِذَ بالقوة لا يُسترَدّ بغير القوة) هي الأدقّ بشأن فَهْم طبيعة هذا الصراع وسُبل إدارته.
في الموسوعة ، التي سبق وأعددناها عنه ونُشِرَت قبل عدّة أعوام والتي حملت عنوان ((ثورة الجنرال ))، قدّمنا أبرز محطّات التجربة الناصرية سواء في صراعاتها الداخلية أو الاقليمية أو العالمية، وهي محطّات تحتاج إلى تأمّل جديد في زمن ما يُسمّى (بثورات الربيع العربي) ، تلك الثورات التي حاولت واشنطن وتل أبيب سرقتها وتوظيفها في إطار مشروع شرق أوسط بقشرة إسلامية يخدم على بقاء إسرائيل أقوى ، ويُفكّك الدول العربية المركزية وفي مقدمها مصر وسوريا وليبيا ، وهو ما جرى بالفعل لولا أن تمكّنت مصر في 30/6/2013 من إجهاض – مؤقّت – لهذا المشروع الذي لايزال يعمل ويتآمر .
إن حضور التجربة الناصرية هنا، وتأمّل سيرة عبد الناصر ومواقفه وسياساته تجاه أركان هذا المشروع القديم – الجديد، يُعدّ مسألة مهمة للغاية، خاصة طريقة تعامله مع الإخوان المسلمين وممثلي التيار الإسلامي الذين أرادت واشنطن اليوم- في زمن ما يُسمّى بثورات الربيع العربي – استخدامهم كورقة لبناء الشرق الأوسط الأميركي الجديد، ذو القشرة الإسلامية، أو ما أسميناه في إحدى دراساتنا بـ(الشرق الأوسط الأميركي بلحية).
إن استحضار النموذج الناصري في التعامل مع الإخوان ومحاولة أخذ العبر والدروس منه يُعدّ في تقديرنا أمراً في غاية الأهمية لأنه ينقذ بلدان الوطن العربي التي ابتليت بحكم هؤلاء وتحالفهم مع واشنطن بعد ما سُمّي بثورات الربيع العربىي؛ وفي مقدمها مصر؛ إنقاذهم من لعبة كبرى للأمم يُراد أن تلعبها واشنطن والغرب وبعض دول الخليج الحليفة لها ، تتحوّل بمقتضاها تلك الدول إلى كيانات مُفكّكة يسهل تحويلها إلى ذيول تابعة للغرب ومصالحه .
ومن القضايا المهمة أيضاً التي تفيدنا فيها السيرة والتجربة الناصرية، قضية الصِراع العربي الصهيوني والموقف منها، وهي قضية ثبت يقيناً أن عبد الناصر رغم هزيمته فىي العام 1967 نتيجة مؤامرة دولية واقليمية مُحكمة، إلا أنه كان يمتلك تصوّراً لفهم وإدارة هذا الصراع، يقوم على إيمانه بمصيريّته وحضاريّته وأنه صراع وجود لا صراع حدود.
ونفس الأمر يُقال عن صراعنا مع الولايات المتحدة والغرب في أجواء ما يُسمّى بالثورات العربية ، ويهمنا هنا أن نؤكّد أنه وقد دخل الوطن العربى (اليوم 2017) إلى حيث ” العصر الصهيونى ” بإحباطاته وانكساراته وتحدياته ، وسط الربيع الزائِف لبعض الثورات العربية من المهم أن نسأل : ماذا تَبقَّى من تجربة عبد الناصر وكيف نحافظ عليه خاصة بعد صمود سوريا وانتصارها على المؤامرة الدولية عليها وبعد سقوط مشروع الإرهاب الداعشى الموظّف أميركياً وإسرائيلياً ، وبعد ثورة الشعب والجيش في 30/6/2013 ضدّ الأخوان ومؤامرة الربيع المزيّف ، ذلك الجيش الوطني الذي أسّسه عبد الناصر والذي من أجل ذلك أحبّ تجربته وتعلّم منها ، ولايزال يسير على خطاه رغم مؤامرة كامب ديفيد 1979 والتي استهدفت (أمركته) و(أسرلته) !
والسؤال الآن هو كيف نقدّم هذا الفهم الناصرى للصراع ضد الحلف الأميركي الخليجي ( الرجعي بلغة زمن عبدالناصر ) كبُعد إضافي لحركة هذا الوطن نحو المستقبل ؟ أليست ” ثورة عبد الناصر” ملكاً لهذا الشعب العربي على امتداد رقعة الوطن العربي، ألم تكن “ثورة يوليو ” هي ثورة هذه ” الأمّة الَحيَّة ” كما وصفها عبد الناصر – إذن والحال كذلك ، فلابدّ من أن يحمي هذا الشعب ثورته ، ولابد من أن تحتضن هذه الأمّة ثورتها – فثورة يوليو مازالت بمُدركاتها لقضايا الأمّة وهموم ناسها الفقراء ، وبإدراكها للمفهوم الحقيقي للثورات وليس لانتفاضات تصنعها الـC.I.A كما هي الحال اليوم في ليبيا وسوريا، وبفهمها الواعي لطبيعة الصراع ولأساليب إدارته ، مازالت تلك الثورة ومؤسّسها حيّة ، لأن “مثلّث الأعداء” لايزال باقياً ، مازالت الولايات المتحدة ، ومازالت إسرائيل ، ومازالت الرجعية ، وإن تحوّلت-الأخيرة- من رجعية إقطاعية تمتلك الأرض إلى رجعية طفيلية تمتلك” البوتيكات الإرهابية وترضعها بالفتاوى والمال الوهّابي الخليجي ! ” وتسطو على الثورات العربية الجديدة وتحوّلها إلى أدوات لتمزيق الأوطان وأدوات للاستتباع المُذلّ لمشيخيات الخليج ولواشنطن وتل أبيب، رغم ذلك مازالت الثورة باقية في ذات هذا الشعب العربي البسيط وإن أجبرته الأحداث والحّكام وتطوّرات الصراع على نسيانها مؤقتاً .
إذا كانت ” ثورة ناصر” فكراً وشعباً باقية ، إذن كيف نحافظ عليها ، وكيف نجعلها ” قوّة دفْع ” في مستقبل الوطن العربي وفي اتجاه قضية الصراع ؟ تلك هي المسؤولية التي تقع على أكتاف الطليعة المُثقّفة من القوميين والإسلاميين العرب الحقيقيين ، وليس أولئك ، الأدوات ، في أيدي واشنطن وتل أبيب من المُتأسلمين والليبراليين الجُدد من ثوار الـ C-I-A ، هذه هي الرسالة الحقيقية التي تتطلّب قبل “المثقف الثائر” ، الشعب الثائر والتي تتمثّل ثوريّته في موقفه من فلسطين ، وتلك هي الأمانة التي تركتها الثورة ، فمن لها اليوم في قاهرة عبد الناصر ؟! وكيف نحوّل تضحيات هذا الشعب إلى بدايات حقيقية لثورة ناصرية جديدة والتي لن تستقيم _هذة المرة- من دون موقف حاسم وجذري من العدو الصهيوني الأميركي، وموقف حازِم أيضاً من قضايا الفساد والفقر والاستبداد ، من دون ذلك سوف تتحوّل الثورة إلى ثورة مُضادّة لاتخدم سوى تل أبيب حتى لو خرجت الملايين في الشارع، فمن غير موقف حاسم من تلك القضايا فإن الفشل هو ما ينتظر تلك الثورات.
هكذا فَهِمَ عبد الناصر قضايا أمّته وهكذا كانت عُصارة سيرته، وتجربته الرائدة، تلك المسيرة والتجربة التي أبقته حيّاً في قلوب شعوب هذه الأمّة، ونحسبه سيظل كذلك-حيّاً- لسنين طويلة.
(الميادين)