مقالات مختارة

بعد الاستفتاء… البرزاني بين خيار التراجع أو مواجهة الحصار الخانق: حسن حردان

 

انتهى استفتاء إقليم كردستان في شمال العراق وجاءت النتيجة كما هو متوقّع تأييداً واسعاً لخطوة مسعود البرزاني رئيس الإقليم، الذي ذهب إلى الاستفتاء هروباً من مأزقه الداخلي ومحاولة لتعويم زعامته المتراجعة من ناحية، وتقوية موقفه التفاوضي مع الحكومة المركزية العراقية لانتزاع بعض المطالب التي تستهدف توسيع منطقة الحكم الذاتي للإقليم لتشمل مدينة كركوك الغنية بالنفط من ناحية ثانية .

واشنطن التي نصحت البرزاني عدم الذهاب إلى الاستفتاء، حرصاً على عدم خسارة نفوذها في مؤسسات الدولة العراقية المحقق من خلال وجود تمثيل قوي للأحزاب الكردية في البرلمان والحكومة والرئاسة، إلى جانب الحكم الذاتي في شمال العراق والذي يضمّ برلماناً وحكومة وقوات مسلحة كردية. وهذا يؤشر إلى أنّ الأكراد حصلوا على حصة وازنة في الدولة العراقية إلى جانب تمتعهم بالحكم الذاتي، وهو أمر ما كان ممكناً لولا الاحتلال الأميركي للعراق الذي دام من عام 2003 إلى عام 2011 .

واشنطن هذه تسعى، بعد أن تمّ إجراء الاستفتاء، إلى إنقاذ البرزاني من الوقوع في فخ الحصار الخانق الذي قرّرت فرضه دول الجوار، تركيا والعراق وإيران، وذلك عبر دعوته إلى الاكتفاء بنتائج الاستفتاء من دون أن يذهب إلى اتخاذ أيّ إجراء للانفصال عن العراق. وفي المقابل تدعو بغداد الى عدم اللجوء إلى خطوات عقابية، لا سيما أنه في حال اتخذت مثل هذه الخطوات من قبل العراق وتركيا وإيران ستؤدّي حسب كلّ المعطيات إلى خنق إقليم كردستان الذي ليس لديه أيّ منفذ بري أو جوي أو بحري إلا عبر هذه الدول. كما أنّها ستؤدّي إلى تحوّل نتائج الاستفتاء إلى جحيم بالنسبة للسكان الأكراد وهو ما سيدفعهم إلى تحميل البرزاني المسؤولية باعتباره هو الذي أصرّ على الاستفتاء من دون أن يأخذ بالحسبان النتائج السلبية وكيفية تفاديها وضمان نجاح خطوته وعدم تحوّلها وبالاً على الأكراد. وبالتالي وضع الإقليم في فوهة بركان في ظلّ موازين قوى تحيط به من الاتجاهات كلها لا تصبّ في مصلحته. كما تستهدف واشنطن من خلال هذه الخطوة تدارك إخراج ممثلي إقليم كردستان من مؤسسات الدولة العراقية، وذلك عبر إقناع أربيل وبغداد بالدخول في حوار لاحتواء نتائج الاستفتاء وتجنيب كردستان التداعيات السلبية، والحفاظ على شعبية حليفها البرزاني الذي أراد من خطوة الاستفتاء حسم الصراع في الإقليم لمصلحة تثبيت زعامته وحكمه باعتباره الرقم الأول والمفوّض من قبل غالبية الأكراد بالتسيّد على الإقليم والتفاوض باسمه مع بغداد.

وفيما البرزاني ذهب إلى الاستفتاء لتحقيق مصلحة ذاتية عبر دغدغة عواطف الأكراد ومخاطبة أحلامهم القومية، فإنّ واشنطن تريد أن يكون أكراد العراق جزءاً من استراتيجيتها الأوسع في العراق والمنطقة، بحيث لا يكون نفوذها محصوراً في شمال العراق، وإنما باتت مصلحتها الملحّة اليوم عدم انفصال إقليم كردستان عن العراق، بعدما خسرت ورقة داعش لابتزاز الدولة العراقية بربط القضاء على داعش، مقابل موافقة بغداد على إقامة قواعد عسكرية أميركية دائمة في العراق لم تتمكّن من انتزاع الموافقة عليها عشية انسحاب قواتها عام 2011 .

لكن من الواضح أنه إذا كان البرزاني اعتقد بأنه يستطيع أن يقوم بخطوته ويتمكّن من العودة إلى سياسة المناورة والابتزاز اعتماداً على الدعم الأميركي والصهيوني، فسرعان ما سيجد بأنه ارتكب خطأ كبيراً، فالحكومة العراقية التي رفضت المساومة قبل إجراء الاستفتاء وتمسكت بموقفها الرافض، أعلنت بعد الاستفتاء موقفاً حازماً برفض نتائج الاستفتاء وعدم القبول بأيّ مفاوضات على أساسه، وطالبت بإلغاء هذه النتائج وقرّرت اتخاذ خطوات عقابية، فيما البرلمان العراقي أجاز للحكومة استعادة سيطرة الدولة على المناطق المتنازع عليها في كركوك وغيرها من المناطق في شمال العراق. وأعلنت إيران البدء بخطوات الحصار مصحوبة بمناورات عسكرية على الحدود مع شمال العراق، وكذلك فعلت تركيا.

ولا يبدو في الأفق من منفذ أمام البرزاني، فالرهان على موقف تركي أقلّ تشدّداً يبدو صعب المنال، فلا يستطيع لا الرئيس رجب أردوغان ولا أيّ حزب تركي المساومة أو التراخي في اتخاذ المواقف والإجراءات الحازمة الاقتصادية والعسكرية وغيرها، لإجبار البرزاني على إلغاء نتائج الاستفتاء وإلا اتهم بالخيانة، خصوصاً أنه بدأ الحديث في تركيا عن الخطأ الذي ارتكبه أردوغان بإقامة الصلات مع البرزاني على حساب العلاقة مع بغداد. وكان من نتيجة ذلك تعزيز سلطة البرزاني وتشجيعه على خطوته الانفصالية. مما اعتبر خطأ قاتلاً في الحسابات التركية. وهذا يعني أنّ السياسة التركية أتت بالدبّ إلى كرمها، فهي من خلال دعم البرزاني ودعم الإرهابيين وتمكينهم من العبور إلى سورية واحتلال مناطق واسعة في بدايات الحرب في شمال وشرق سورية، وفّرت الأساس لنشوء وتنامي القوة العسكرية للتنظيمات الكردية وتطلعها لإقامة كونفدرالية، حتى أصبحت تركيا اليوم أمام خطر يهدّد بتقسيمها، خصوصاً إذا ما نشأت دولة كردية في شمال العراق وكونفدرالية في شمال سورية. لأنّ أكراد تركيا البالغ عددهم نحو عشرين مليوناً سوف تزداد آمالهم بإقامة دولة كردية في جنوب شرق الأناضول، ولمَ لا، طالما أنّ خمسة ملايين كردي في شمال العراق أقاموا دولة، وأكراد تركيا يبلغ عددهم عشرين مليوناً؟ لذلك فإنّ هذا الموضوع يعتبر من الخطوط الحمراء بالنسبة لتركيا لا يمكنها المساومة فيه، فهي أصلاً رفضت إعطاء أكراد تركيا حكماً ذاتياً، وهو حق طبيعي لهم، فكيف بها تسمح أو تتجاهل خطوة قد تقود إلى ولادة دولة كردية على حدودها؟

انطلاقاً من ذلك، فإنّ مسعود البرزاني عاجلاً أم آجلاً سوف يجد نفسه أمام مأزق كبير، وأنّ حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر، فنتائج الاستفتاء لن تعزّز موقفه بل ستجعله أضعف، فلا خيارات أمامه للمناورة. وهو مطالَب بالتراجع عن لغة الابتزاز باستخدام نتائج الاستفتاء ورقة للتفاوض، وإلا واجه الحصار الخانق من الاتجاهات كلّها، وحسم السيطرة العراقية على كركوك فأيّ من الخيارين سيختار البرزاني: مواجهة الحصار وتقليص سيطرته وتحوّل الحياة في كردستان جحيماً لا يطاق، أم يتراجع عما أقدم عليه ويعود إلى التعقل والتخلي عن سياسة الابتزاز؟

الأيام القليلة المقبلة ستحدّد أيّ خيار سيسلك مسعود البرزاني…

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى