الاستراتيجية الإسرائيلية: من عقيدة الأطراف إلى اختراق القلب…د. ليلى نفولا
في العقود الأولى لتأسيسها، طوّرت إسرائيل استراتيجية أمنية واقتصادية لتتخطّى العزلة التي وجدت نفسها فيها، أسميت “عقيدة الأطراف periphery doctrine”. وبموجب هذه العقيدة، التي تبنّاها دايفد بن غوريون، اعتقد الإسرائيليون أن بوسعهم القفز فوق التحدّي الذي خلقته لهم القومية العربية مع عبد الناصر، وتخطّي المقاطعة والعزلة التي فُرضت على كيانهم، وذلك من خلال أمرين: الأول إقامة علاقات مع دول غير إسلامية، وإسلامية غير عربية تحيط بالعالم العربي جغرافياً يقوم من خلالها الإسرئيليون بتطويق “دول الطوق” العربي، أما الثاني فهو إقامة حلف مع الأقليات، ومنهم الأكراد، والموارنة في لبنان والبربر في المغرب العربي وأقليات جنوب السودان وغيرها.
إسرائيل أقامت علاقات وثيقة مع أكراد العراق في الستينات، ودعمت بشكل مستمر استقلال كردستان ومطالبها بالانفصال عن العراق
إسرائيل أقامت علاقات وثيقة مع أكراد العراق في الستينات، ودعمت بشكل مستمر استقلال كردستان ومطالبها بالانفصال عن العراق
وعلى هذا الأساس، أقامت إسرائيل ابتداءً من خمسينات القرن الماضي، علاقات جيّدة مع كل من تركيا، إيران – الشاه، والامبراطور الأثيوبي هيلا سيلاسي، مُستفيدة من مشاكل هؤلاء مع الدول العربية؛ أي تركيا ومشاكلها مع سوريا، إيران وصراعها مع العراق، وصراع أثيوبيا مع السودان. كما أقامت علاقات وثيقة مع أكراد العراق في الستينات، ودعمت بشكل مستمر استقلال كردستان ومطالبها بالانفصال عن العراق.
وبالرغم من أن تلك العقيدة أثبتت عدم فعاليتها على المدى الطويل، فقد خسرت إسرائيل حلفاءها، بعدما أطاح انقلاب عسكري بالامبراطور الأثيوبي عام 1974، ثم أطاحت الثورة الإسلامية بالشاه في إيران عام 1979، إلا أن إسرائيل لم تتخلَ عن تلك العقيدة بل استمرت بتطبيقها، بالرغم من اتفاقيات السلام التي أقامتها مع كل من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
بالطبع لم تلغِ إسرائيل عقيدتها الاحتوائية، ولكن وجهتها تحوّلت، فمنذ الثورة الإسلامية ولغاية اليوم، ترى إسرائيل أن الخطر الأكبر عليها يتجلّى في التهديد الإيراني ومَن تدعمهم الجمهورية الإسلامية من دول وكيانات في المنطقة، لذا تحوّلت عقيدة “الأطراف” إلى محاصرة إيران وتطويقها، ومحاولة إخضاع الدول والكيانات المُرتبطة بها كحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وغيرها.
وتنفيذاً لتلك العقيدة، سارعت إسرائيل – مباشرة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي- إلى الاعتراف باستقلال دول آسيا الوسطى، وأقامت علاقات اقتصادية وتجارية وثقافية معها.
ثم استفاد الإسرائيليون من تطوّرات “الربيع العربي” والفوضى التي حلّت بالمنطقة، فدعموا المجموعات الإرهابية المسلّحة في سوريا، أملاً في استنزاف الجيش السوري وحزب الله، وتمهيداً لإقامة شريط جغرافي عازِل، يقف عائقاً أمام تشكّل أية مقاومة مُحتملة في الجولان المحتل.
ومع تسارُع التطوّرات، واشتعال حدّة الصراع السنّي الشيعي، دخلت إسرائيل مرحلة جديدة من العلاقات مع الدول العربية الخليجية التي وجدت في إسرائيل “حليفاً” يمكن الاعتماد عليه لمواجهة إيران.
وبالرغم من أن “عقيدة الأطراف” لم تعد موجودة بشكل كبير في الخطابات الإسرائيلية، إلا أنه من الواضح أنها ما زالت تشكّل حيّزاً مهماً من التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي، ولعلّ مؤشّرات تلك العقيدة تتجلّى في:
– دعم قيام دولة كردية مستقلة على حدود كل من تركيا والعراق وإيران وسوريا، ما يسمح لإسرائيل بالقبض على قلب المنطقة وليس البقاء على هامشها.
– محاولة إنشاء حلف سعودي إسرائيلي، ينشأ انطلاقاً من استشعار التحديات الأمنية ولمواجهة إيران، ثم يمتد إلى السياسة والاقتصاد والتجارة والتطبيع، فتستفيد منه إسرائيل لتسويق نفسها حليفاً للسنّة العرب، متّكلة على ما تشكّله المملكة العربية السعودية من وزن وقيمة إسلامية.
إذاً، يسجّل المشروع الإسرائيلي اليوم انتقالاً من تحالف الأطراف والأقليات، إلى اختراق قلب المنطقة، لكن التاريخ يثبت أن الأقليات التي تحالفت مع إسرائيل سرعان ما وجدت نفسها مهزومة تتحمّل أعباء ووِزر ذلك التحالف خسارة سياسية وميدانية في بلدانها، فأيّ مصير للأكراد بعد دعمهم إسرائيلياً، هل يكون مصيرهم مُشابهاً لمصير الأحزاب اللبنانية المُتعاملة مع إسرائيل والذين تُركوا لمصيرهم فدفعوا ثمن الحرب ثم ثمن السلام في ما بعد، أو مشابهاً لمصير جنوب السودان التي حقّقت الاستقلال ولكنها دخلت في حرب أهلية مباشرة بعده؟.