بقلم ناصر قنديل

ماكرون وترامب: تقاسم أدوار أم بدء استقلال؟

ناصر قنديل

تسنّى لمن تابع كلمات الرؤساء والقادة الذين تناوبوا على منبر نيويورك، التمييز بقوة بين خطاب كلّ من الرئيس الأميركي دونالد ترامب وخطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فيما تمايزت التصريحات اللاحقة للرئيسين لتناولها ملفات لم تتضمّنها كلمتاهما. وفي الخلاصة بدا للكثيرين ترامب بشخصية رجل الكراهية والتصعيد والتلويح بالحروب والخروج من التفاهمات، حتى لو أدّى التدقيق بكلامه أنه فاقد الحيلة لترجمة هذه التهديدات فبقيت كلاماً تهجمياً عدائياً دون تذييلها بتهديد واضح إلا مشفوعاً بمعادلة في حال تعرّضنا للخطر، بينما برز ماكرون كرجل تسويات، يدعو لحوار سياسي حول الأزمة الكورية ويحذّر من العبث بالتفاهم حول الملف النووي مع إيران، بصورة تخطّت التمايز عن ترامب إلى حدّ تولي الردّ عليه عملياً، حتى بدا أنّ خطاب ماكرون مخصّص للردّ على ترامب .

تقدّم ماكرون خطوة ثانية في سياق صناعة التسويات بحديثه عن الدعوة والعمل لمجموعة اتصال حول سورية، وبتركيزه على الحاجة للتعاون مع روسيا في حلّ الأزمات كلّها، ولم يخف لا الحرص على تقدّم العلاقات مع إيران، ولا التشارك مع تركيا في مواجهة الاستفتاء على الانفصال الذي دعت إليه رئاسة إقليم كردستان في العراق، ما وضع كلام ماكرون في دائرة بلورة استراتيجية دبلوماسية فرنسية متكاملة، لم تتجاهل القضية الفلسطينية ومساعي الحلّ على أساس الدولتين، كما فعل ترامب، ولم تقف عند حدود الخطاب التقليدي لفرنسا وأميركا من سورية ورئيسها، بل أضافت، بالنهاية مستقبل الرئاسة السورية يقرّره السوريون، والرئيس السوري يقاتل الإرهابيين وليس الفرنسيين.

بالنسبة لبعض المراقبين للسياسة الفرنسية ثمة استحالة لانفراد فرنسا عن أميركا في السياسة الخارجية، بالتالي يمكن تفسير التمايز والتباين بتفاوت الظروف والخصوصيات، تحت سقف واحد، فلغة ترامب التصعيدية تخدمه في وضعه الداخلي الحرج بتقديم صورة الرئيس القوي التي يحرص عليها، لكنه لا يملك أيّ خريطة طريق للسير بالتصعيد. وهذا واضح من مضمون خطابه، ويعلم كما تعلم إدارته أنّ التسويات قدر لا مفرّ منه، لذلك لا شيء يمنع أن تتولى فرنسا التي تستفيد من خطاب التسويات، وترتبط مصالحها بصورة عضوية بمنطقة النزاعات القريبة منها، وأن تكون جسر التفاهمات حتى مع روسيا، وقضية أوكرانيا همّ فرنسي ألماني أميركي مشترك، وهذا الدور الفرنسي يمنح واشنطن فرص تفاوضية أفضل بصفتها طرفاً لا وسيطاً، سواء مع روسيا أو إيران أو كوريا، ولا مانع من دخول فرنسا على خط تحسين العلاقة بتركيا ورسم المشتركات معها ولو تحت سقف تعاون تركي مع روسيا وإيران، طالما أن لا تسويات في نهاية المطاف بدون أميركا.

مقاربة أخرى تطرح نفسها بقوة، وقوامها أنّ الأمور لا تسير بهذه الطريقة بين الدول، مهما بلغ التحالف بينها من مرتبة، ففرنسا تعبّر عن مصالحها وخطابها، وواشنطن تائهة بلا خيارات، وأسيرة خطاب خشبي عاجز عن تقديم بدائل. وهذا يعني أنّ باريس رسمت سياستها وهي تأخذ بالاعتبار أهمية أميركا، لكنها تنتبه لضياعها السياسي، وتراهن على جذبها إلى المسارات التسووية التي تقترحها،

وتستثمر على فعل المتغيّرات في تقريب واشنطن من هذه المسارات، لتجد في موقفها حاجة ومخرجاً مناسباً، يعرض على واشنطن بتوقيت مناسب، فتستطيع قبوله، لكنها لا تملك لا مشروعية ولا قدرة التقدّم به. وهذا أقرب إلى الواقع من فرضية تقاسم الأدوار، لكنه يعكس في النهاية حجم الفراغ الذي يتركه تراجع مكانة أميركا السياسية بمثل الفراغ الذي تركه تراجع مكانتها العسكرية، وهو تراجع ملأته روسيا حتى الآن وتطمح فرنسا مقاسمتها المهمة، برضا أميركي من موقع الحاجة والضرورة، وليس بالتالي تقاسماً وظيفياً للأدوار. وربما يكون التراجع الأميركي مصدراً لهوامش جديدة للاستقلال في معسكر الحلفاء يطال فرنسا، كالذي نشهده في الحركة التركية نحو روسيا وإيران، خصوصاً عندما يصير صعباً التمييز بين خطاب دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، كما يصعب التمييز بين عجزهما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى