معركة البلدة القديمة في الخليل-منير شفيق
القرار الصهيوني بإعطاء مجلس إدارة شؤون المستوطنين: “سلطة إدارة شؤونهم البلدية” في البلدة القديمة في الخليل، يشكل استراتيجية صهيونية تهدف إلى ضم البلدة القديمة إلى الكيان الصهيوني، علما أن مدينة الخليل هي البلدة القديمة، ولا يمكن أن تعامل الخطوة الاقتلاعية الجديدة كجزء من الخليل تحت أي ظرف من الظروف أو أية حجة من الحجج.
إن ضم البلدة القديمة هو بمثابة ضم الخليل كلها، وليس مجرد جزء يمكن للأجزاء الأخرى أن تعوّض عنه. ولهذا فإن المعركة التي يخوضها اليوم أبناء الخليل البواسل الشجعان يجب أن تُعامل باعتبارها المعركة الثانية بعد معركة القدس والمسجد الأقصى التي يجب أن تلوى فيها ذراع نتنياهو وحكومته وجيشه ومستوطنوه.
لا شك أن ثمة تقصيرا هائلا حدث في الماضي، وتحديدا بعد اتفاق أوسلو وذلك بتوقيع الاتفاق حول الخليل في ظل الاحتلال والاستيطان للبلدة القديمة فضلا عن الحرم الابراهيمي، وعمليا الاستيلاء الصهيوني عليه والتحكم بإدارته، وهو الذي أدى إلى ما أدى إليه من تفاقم وضع الاحتلال والاستيطان وما مورس من بطش ومصادرة للبيوت وتهجير للسكان. فالاحتلال الممارس في الخليل لا يختلف كثيرا عن الاحتلال الممارس في القدس وعلى القدس. كما أن اقتسام الصلاة في الحرم الإبراهيمي والسيطرة عليه كان مقدمة تجريبية لاقتسام الصلاة في المسجد الأقصى والسيطرة الكاملة عليه.
ولهذا كان التقصير هائلا من جانب سلطة أوسلو، حين لم تخض معركة حاسمة لمنع اقتسام الصلاة في الحرم الإبراهيمي والاستيلاء الاستيطاني على البلدة القديمة. وقد أثبتت التجربة أن “اتفاق الخليل” بالرغم من إبقائه البلدة القديمة تحت صلاحية بلدية الخليل، لم ينفع شيئا مع الاستيلاء الكامل في ظله على الحرم الابراهيمي والبلدة القديمة والتمدد أكثر فأكثر يوما بعد يوم.
طبعا لا فائدة من البكاء على “اللبن المسكوب” كما يقول المثل، فنحن أبناء اليوم. واليوم هو ابن يوم المسجد الأقصى أمس، يوم هبت جماهير القدس بشبابها وشيبها وشيوخها وفتيانها: نساء ورجالا، وشبابا وشابات، ونزلت إلى الشوارع بعشرات الآلاف وأعلنته عصيانا مدنيا لإزالة الحواجز الالكترونية وعدسات التصوير. الأمر الذي فرض انتصارا مؤزرا، ولو كان جزئيا ولكنه كان كبير الأهمية. فمن جهة، حال دون أن يصبح مصير المسجد الأقصى كما حدث بمصير المسجد الإبراهيمي الذي يرزح تحته حتى الآن. أما من الجهة الأخرى، فقد أثبت أن موازين القوى على كل المستويات هي في غير مصلحة الكيان الصهيوني وفي غير مصلحة حلفائه الكبار، بل وفي غير مصلحة المتخاذلين أو المتواطئين أو المثبطين في الوضعين الفلسطيني والعربي. وذلك إذا ما هبّت الجماهير ونزلت إلى الشارع لتواجه بصدورها العارية قوات الاحتلال والمستوطنين. وإذا بالنصر، بإذن الله، كان سريعا. ونزلت هزيمة بمخططات السيطرة الكاملة على المسجد الأقصى واقتسام الصلاة فيه والمضي باستراتيجية تهويد القدس.
من هنا فإن قرار إعطاء المستوطنين في البلدة القديمة في الخليل “سلطة مجلس محلي” أو “سلطة بلدية” يجب أن يسقط كما سقطت الحواجز الالكترونية وعدسات التصوير في معركة المسجد الأقصى الأخيرة. فالحرم الإبراهيمي يجب أن يُستعاد كاملا، ومستوطنو الخليل – البلدة القديمة – يجب أن يرحلوا، ويجب أن ينتهي ما يعانيه الخليل من قبضة احتلال مستشرية ومتمادية، لم تترك لسلطة رام الله من سلطة إلاّ على تنفيذ التنسيق الأمني بحق المقاومة والانتفاضة في الخليل. ولهذا كان الحق كل الحق مع ما بدا من تململ لانتفاضة خليلية عارمة (تلحق بشقيقتها الخليلية المقدسية في القدس) في فتح معركة إنقاذ الحرم الإبراهيمي والبلدة القديمة من التهويد والمصادرة.
إن الأصوات التي ارتفعت من القيادات الأهلية والبلدية ولجنة المتابعة العليا في الخليل، وما قامت من مسيرة انطلقت من مسجد الشيخ علي باتجاه البلدة القديمة وتظاهرة أخرى كبيرة دعت إليها لجنة المتابعة العليا احتجاجا على القرار سيء الصيت المذكور؛ ليدلان دلالة واضحة على أن جماهير الخليل وقادة من نخبها المناضلة ووجهائها أخذوا بالتنبه الجاد لما يجري من مؤامرة ضم تهويدية في الخليل وللخليل. وهو ما يشكل إرهاصات للانتقال بالمواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي والمستوطنين إلى مستوى الانتفاضة الجماهيرية، ولو بالصدور العارية إلا من الحق الذي لا جدال فيه، وذلك من أجل إنقاذ الحرم الإبراهيمي والبلدة القديمة بل الخليل كله من هذا الزحف الاستيطاني الاقتلاعي الإجرامي.
القضية عادلة وواضحة هنا كعدالة ووضوح قضية المسجد الأقصى والقدس. كما أن موازين القوى والظروف حتى بما فيها من سلبيات عربيا وفلسطينيا (سلطة رام الله والمتهالكون على التطبيع عربيا) تسمح بفتح معركة البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي؛ ليس من أجل تسجيل الاحتجاج والتأكيد على الحق فحسب، وإنما أيضا من أجل تحقيق انتصار في معركة إذا ما فتحت سيكون نتنياهو الخاسر فيها كما خسر في معركة المسجد الأقصى.
بل إن الظروف في الخليل، ولا سيما مع ما صدر من قرارات للأونسكو حول الخليل والبلدة القديمة، والأهم ما سجله تاريخ الخليل، مدينة وقضاء، من بطولات في الثورات والانتفاضات والمقاومة الفردية والشعبية؛ لتعطي تأكيدا بأن انتفاضة شعبية واسعة سوف تكلل بالانتصار الحتمي بإذن الله. ولعل هيئة البلدية الجديدة ستكون مؤهلة ولها كل الحق في التحرك مع لجنة المتابعة العليا، ولا سيما أن القرار الصهيوني يمس سلطتها على البلدة القديمة مسّا مباشرا. فالصلاحيات التي أعطاها القرار الصهيوني لمجلس مستوطني البلدة القديمة يشمل إعطاء تراخيص بالهدم والبناء والتغيير في البنى التحتية، بما يعني التهويد والمزيد من الاستيطان والمصادرة ويلغي صلاحيات بلدية الخليل وحتى “اتفاق الخليل”، ناهيك عن مخالفته الصريحة للقانون الدولي.
صحيح أن التوجه كان يجب أن يكون الانتفاضة الشعبية الشاملة لمواجهة الاحتلال والاستيطان على مستوى كل الضفة الغربية والقدس، بحيث يصحبه حراك شعبي شامل فلسطينيا وعربيا وإسلاميا وعالميا لدعمه من أجل حلّ مشكلة الاحتلال والاستيطان حلا شاملا؛ بدحره من القدس والضفة الغربية وفك حصار قطاع غزة بلا قيد أو شرط. فالاحتلال والاستيطان هما أسّ البلاء لما يتعرض له المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي، كما القدس والخليل ونابلس وكل المدن والقرى والمخيّمات. فما يواجه بالقطّاعي (جزءا جزءا) في القدس والخليل مثلا؛ يحقق انتصارات جزئية. بل إن دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الأراضي التي احتلت في حزيران 1967 يعتبر ضرورة عاجلة وانتصارا مهما. ولكن سيظل بدوره جزئيا؛ لأن الحل العادل والجذري للقضية الفلسطينية لا يكون إلا بالتحرير الكامل من النهر إلى البحر.
ولكن في هذه “اللحظات” لتكن معركة الحرم الإبراهيمي ومعركة البلدة القديمة كما كانت “اللحظات” السابقة معركة المسجد الأقصى في مواجهة الأجهزة الإلكترونية وعدسات التصوير؛ لأن تحقيق انتصارات شعبية على هذا المستوى قد يهيئ شروط الانتقال للانتفاضة الشعبية الشاملة على مستوى القدس والضفة والقطاع، كما كانت الحروب الثلاث التي خاضها قطاع غزة وصموده تحت الحصار استراتيجية موازية لاستراتيجية الانتقاضة الشاملة، وكل هذا سيؤدي إلى دحر الاحتلال والاستيطان بلا قيد أو شرط، ومنه إن شاء الله إلى كل القدس ويافا وحيفا وعكا والناصرة وعسقلان، فالهدف التحرير من الناقورة إلى أم الرشراش ومن النهر إلى البحر. وذلكم هو الانتصار الذي ما بعده انتصار في فلسطين.