درس لبنان الأساس من الانتصار الثاني؟: العميد د. أمين محمد حطيط
لم يكن سهلاً أن يواجه لبنان المدّ الإرهابي المتدفق إليه والمستند إلى مرتكزات داخلية غير محدودة الحجم والفعالية في القرار السياسي والتأثير في الشارع، في ظلّ انقسام حادّ في لبنان والمنطقة بين محورين أو معسكرين، معسكر يبغي استعمارها مستثمراً بالإرهاب ومعسكر يقاوم هذه النزعة ويقاوم التبعية والهيمنة الأجنبية على البلاد والعباد .
لقد تعقدت مهام لبنان الأمنية والعسكرية في مواجهة الإرهاب بسبب الوضع الداخلي الذي جاهر أطراف لبنانيون فيه بدعم الإرهابيين وإسباغ صفة الثوار عليهم، واحتضانهم ورعايتهم ثم منع الجيش اللبناني من التصدّي لهم حتى ولو كان ذلك على حساب المصالح الأمنية اللبنانية العليا. ولا يمكن أن يُمحى من تاريخ لبنان المعاصر، كيف أنّ فريقاً لبنانياً جاهر وبكلّ صلف ووقاحة بمعارضة الجيش ورفض تحركه للمواجهة والقول بأنه بحاجة إلى إذن من سكان القرى في الشمال حتى يتحرّك على الطرقات، أو كيف أنّ جهات من هذا الفريق السياسي جاهرت برفضها التعزية بشهداء الجيش الذين سقطوا بيد الإرهابيين غدراً.
ومن المؤلم أيضاً أنّ الفريق اللبناني الداعم للمسلحين كان يعرف جيّداً أنّ الإرهاب في حال تمكّنه وانتصاره سيشطب لبنان من الخريطة ويضمّه إلى دولة مزعومة أسمِيت دولة الخلافة الإسلامية وهي لا إسلامية ولا شرعية أصلاً والتي خطّط لها لتمتدّ على مساحة ست دول عربية منها لبنان، وقد شرعت تلك المنظمة الإرهابية بمشروعها انطلاقاً من عرسال شرقي لبنان على الحدود مع سورية، وأعلنت بشكل ضمني أنها تريد الوصول إلى طرابلس في شمال غرب لبنان لتقيم إمارة الشمال اللبناني وتمتلك للدولة المزعومة مرفأ على المتوسط، ورغم ذلك سكت عنها وغلّت يد الجيش عن مواجهتها والدفاع عن لبنان، رغم أنّ الجيش اللبناني قادر وبكلّ تأكيد على تنفيذ المهمة بما يملك من احتراف وقدرات، ولكن القرار السياسي منعه من ذلك ما جعل الإرهاب يثبت أقدامه ويشعر بالأمان على أرض لبنانية احتلها، وكاد أن يتمدّد لولا…
وفي هذه الـ «لولا…» يشعر اللبنانيون بأهمية المقاومة وأهمية وجودها في لبنان، حيث إنّ المقاومة لم تنتظر ولم تلتفت الى قرار سياسي يعطل قدرات لبنان الدفاعية ولم تكترث لما قيل أو يقال، فأرسلت مجاهديها إلى الميدان وعملت على مستويات ثلاثة…
1 ـ المستوى الأول: بادرت المقاومة فوراً بعمل دفاعي سريع وأقامت حزاماً سداً عسكرياً منيعاً يمنع الإرهاب والإرهابيين من التمدّد غرباً إلى المدن والبلدات البقاعية. وكانت المبادرة تلك متكاملة مع ما سمح للجيش اللبناني القيام به أو انتزعه أو فرضه ميدانياً، ما وجّه رسالة إلى الإرهابيين مضمونها «قف مكانك حتى…».
2 ـ المستوى الثاني أمني: بادرت إليه المقاومة مع أجهزة أمنية رسمية في طليعتها مديرية المخابرات في الجيش والمديرية العامة للأمن العام، وغايته منع العمليات الإرهابية في الداخل. وهي عمليات كانت بدأت وحصدت مئات الشهداء والجرحى، وكلها تقريباً انطلقت من قاعدة الإرهاب في جرود عرسال والقلمون الغربي.
3 ـ المستوى الثالث كان من طبيعة هجومية انفردت المقاومة بالقيام به في ظلّ تكبيل يد الجيش عن المبادرة الهجومية لطرد الإرهابيين من الأرض اللبنانية. في هذا الصدد قامت المقاومة بتطهير مساحة على مسافة 50 كلم من الحدود اللبنانية السورية، وبعمق يتراوح بين 10 و25 كلم داخل الأرض اللبنانية وشمل التطهير جرود يونين ونحلة وتوقفت العملية عند جرود عرسال لاعتبارات مذهبية وسياسية وخشية تحريك الغرائز و«الادّعاء بأنّ حزب الله الشيعي يغزو عرسال السنية».
لقد نفذت المقاومة كلّ هذا وحققت مستوى رفيعاً من الأمن في الداخل تجلّى بانخفاض سقف التهديد الأمني بنسبة تتجاوز 80 في المئة، وأدّت إلى تطهير أرض لبنانية بمساحة 700 كلم2 من دون انتظار قرار سياسي داخلي كان معروفاً أنه لن يأتي في ظلّ تلك البيئة الداخلية والإقليمية التي فيها معسكر يتخذ من الإرهاب سلاحه وجيشه السري. وهنا تكرّرت مرة أخرى مشهدية الاحتلال «الإسرائيلي»، ونشوء المقاومة، وتحرير الجنوب، الذي بات اليوم يسمّى «التحرير الأول» ربطاً بتسمية ما جرى في الجرود الآن بـ «التحرير الثاني»، وهو التحرير الذي يأتي بنكهة خاصة أيضاً، حيث صنعه معاً الجيش اللبناني والمقاومة، فقاد الجيش عملية «فجر الجرود» بعد أن تغيّر القرار السياسي في ظلّ تغيّر موازين القوى داخلياً وخارجياً وفي ظلّ قيادة سياسية لبنانية لا تنصاع لإملاءات الخارج.
وفي التحرير الثاني تمّ التأكيد مرة أخرى على أنّ الحاجة للمقاومة في بلد كلبنان حاجة لا يمكن أن تنتفي في ظلّ واقع لبناني انقسامي وخلاف على تحديد العدو والصديق، خلاف يؤدي غلى تعطيل القرار السياسي وشلّ يد الجيش واستباحة لبنان.
لقد تأكد في مواجهة الإرهاب في عرسال بأنّ المشكلة العسكرية والأمنية في لبنان ليست محصورة في مسألة تسليح الجيش وقدراته وطرق مواجهته للاحتلالات الأجنبية وأنماطها بل إنّ المشكلة الأساس تتعلق بالقرار السياسي الذي يحرّك الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية، والكلّ يعلم أنّ الجيش موضوع دستورياً بتصرف مجلس الوزراء. ومجلس الوزراء هو تجمع المتخاصمين المتناكفين الذين لا يتفقون على مصلحة وطنية مهما كان حجمها وأهميتها، بل جلّ همّ معظمهم حصصهم الشخصية وإرضاء مرجعياتهم الخارجية، وهؤلاء مهما كانت نسبتهم فإنهم قادرون على تعطيل القرار الوطني الصحيح وإفساد مهام الدفاع عن لبنان، إنْ كان في الدفاع مسّ بمصالح تلك المرجعيات.
وكلمة أخيرة لا بدّ منها هنا، حيث نقول إنه رغم يقيننا بمسؤولية دستورية وسياسية وجنائية لتقع على الذين عطلوا عمل الجيش اللبناني في مواجهة الإرهاب أو أساؤوا استعماله في الميدان، وأدّى فعلهم إلى كارثة لحقت بالجيش ولبنان تمثلت بأسر عسكريين لبنانين وقتل بعضهم، ورغم أنّ الأصول تقضي بملاحقة هؤلاء المتسبّبين بهذه الكارثة مهما علت مواقعهم أو انخفضت بدءاً برئيس الحكومة آنذاك كانت كرسي رئاسة الجمهورية شاغرة . رغم هذه المسؤوليات ويقيننا بوجوب المساءلة، فإننا لا نعتقد مطلقاً أنّ المحاسبة ستحصل. وهذا ما يؤكد مرة أخرى مدى حاجتنا للمقاومة واستمرارها لحماية لبنان وحماية من يقول لأميركا «نرفض استعمارك» ويقول لإسرائيل نحن بالمرصاد فلا تتجرّئي على العدوان؟
(البناء)