الانزلاق نحو المجهول ممنوع: ابراهيم ناصرالدين
ستطوي الايام كل السجالات الانية حول معركة الجرود، لن يجد «خصوم» حزب الله اي سبيل لصرف الحنق المتعاظم لديهم على ارض الواقع، كلامهم حول تنسيق بين الحزب «وداعش» مثير للسخرية، والضحك، في آن واحد، ومحاولاتهم التملص من المسؤولية الاخلاقية والسياسية عن هدر دماء العسكريين لن تنطلي على احد، كل الوقائع تدينهم، وهم متورطون في هذه «الجريمة» بفعل حسابات خاطئة، ويحاولون الان الهروب الى الامام لتقليل الخسائر التي لم يعد احد قادر على الحد منها في ظل انهيار متسارع لمشروع اسقاط الدولة السورية التي كان هذا الفريق يراهن عليه لاضعاف حزب الله اولا، والقضاء عليه ثانيا، برعاية اقليمية ودولية اغرقت هؤلاء بوعود كبيرة تبين مع الوقت انها لا تتماشى مع الوقائع …
هذه الخلاصة لاوساط وزارية بارزة، تؤكد ان الاتصالات الرفيعة المستوى التي شارك فيها قبل ساعات قليلة، رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس الحكومة سعد الحريري، والرئيس نبيه بري، وقيادة حزب الله، افضت الى توافق واضح على عدم الانزلاق الى الفوضى، والحفاظ على الاستقرار الداخلي مهما بلغت السجالات من حدة حول ملف الجرود والعسكريين المختطفين.. لان ترك البلاد تقع في المجهول ممنوع، ولا توجد رعاية اقليمة او دولية لادارة الازمة اذا ما انفلتت الامور…
هذا التفاهم، له اسبابه الموضوعية الداخلية فالانقسامات الوطنية التي عرفتها البلاد بعد العام 2005 لا يمكن ان تعود مجددا الى سابق عهدها، فالظروف تغيرت ولم تعد الارض مهيئة لانقسام مشابه كاد يدخل الساحة اللبنانية في مواجهة لا طائل منها، ففي تلك الاعوام وما تلاها بعد 2011 كان ثمة مشروع اقليمي ودولي متكامل لاعادة صياغة المنطقة، وكان فريق 14 آذار جزءاً من الادوات المستخدمة لضرب محور المقاومة. لكن الامور تغيرت اليوم ولم تعد هذه القوى مؤهلة لخدمة المشروع الذي سقط بدوره على «ابواب» العراق وسوريا سابقا، والان في معركة الجرود.
ولذلك فان «الصراخ» العالي الصادر عن تلك القوى هو صراخ «الالم»، ولن يستدعي اي تدخل خارجي مؤثر، فالحليف الاميركي مشغول بقضايا اهم ويبدو انه ابرم «صفقة» مع روسيا في المنطقة، كما ازدادت السعودية ضعفاً، وهي تتخبط في سياساتها المربكة» للحلفاء» «والخصوم» في آن واحد، ومن يتذكر الحملات «الشعواء» التي شنت بعد مشاركة «حزب الله» في الحرب السورية، يدرك ان «ما كتب قد كتب»، والاعتراضات هي لزوم ما لا يلزم، ومن يذكر ايضا خيار رئيس الحكومة سعد الحريري وفريقه السياسي «دفن» الرؤوس في الرمال، اثر الخلاف حول اعادة التنسيق مع النظام السوري، والذي توج بزيارة وزراء الاشغال، والزراعة، والصناعة الى دمشق، يعرف ان قدرة هذا الفريق على التأثير تلاشت، فالقصة انتهت بادعاء فارغ من اي مضمون يفيد بان الزيارات «شخصية» وليست رسمية!..
ولتأكيد وجهة نظرها، في قلة «حيلة» «خصوم» حزب الله، تشير تلك الاوساط الى ان الحزب اتخذ قراره بتنظيف الجرود «والدولة» لحقت به، استفاد الحزب من الاجواء الاقليمية الساخنة في «البيت الخليجي»، والانقسام السعودي- القطري الذي جعل من «النصرة» «لقمة سائغة» غير قابلة للتوظيف الداخلي، كما حصل في السابق من خلال تبني تيار المستقبل و14 آذار مهمة حمايتها وعدم المساس بها، من خلال تحريك الشارع السني والتهديد بالفتنة الداخلية… لم تكن روسيا تعارض العملية العسكرية، لكنها لم تكن جزءا من اولوياتها، كذلك لم يكن الجيش السوري يرى في هذه الجبهة اولوية، لكن الحزب فرض اجندته على الحلفاء، واخذ على عاتقه حسم المواجهتين مع «النصرة» وداعش» في فترة قياسية زمنية، دون تعريض المواجهة في البادية الى اي انتكاسة، وعدم تأثير فتح جبهة جديدة على الزخم الموجود هناك، وهذا ما حصل على ارض الواقع، طبعا التنسيق كان حاضرا منذ اليوم الاول مع رئيس الجمهورية ميشال عون الذي بارك هذه الخطوة الاستراتيجية، واخذ على عاتقه كقائد اعلى للقوات المسلحة بمشاركة الجيش في الجزء الخاص بجرود القاع وراس بعلبك، وهو امر لم يغر الاميركيين الا بعد نجاح حزب الله في تحرير جرود عرسال، وادراكهم ان الحزب قد انهى وضع الخطط اللازمة لطرد «داعش» من الجرود، عندها ابدت واشنطن عبر سفاراتها في بيروت استعدادها لتزويد المؤسسة العسكرية بما يلزم من عتاد وذخائر لتحقيق الانتصار على التنظيم الارهابي… لكنها عادت اليوم لتعترض على النتائج…
وفي هذا السياق لا تتوقع تلك الاوساط، حصول اي تداعيات او مضاعفات خطيرة لان حدود «اللعبة السياسية» مرسومة بدقة شديدة، التسوية التي افضت الى انتخاب عون رئيسا، واتت بالحريري الى رئاسة الوزراء، لا تزال على «قيد الحياة» ولا مصلحة لاحد في نسفها، خصوصا رئيس الحكومة الذي لا يملك اي خيارات سوى «الصمود» في موقعه، وهو ابلغ الدائرة المقربة منه بان لا يغالوا كثيراً في التوقعات، لان لبنان ليس على قائمة الاولويات الاقليمية والدولية، واي «دعسة ناقصة» ستعني الذهاب الى المجهول…وفي المقلب الاخر يدير رئيس الجمهورية الامور بحكمة شديدة، فقلبه وعقله مع المقاومين في الجرود، لكن لسانه ينطق بما يجمع اللبنانيين من موقعه كرئيس للدولة، وكان بيانه في اعلان النصر بالامس واضحا لجهة التركيز على انجازات المؤسسة العسكرية، مع العلم انه كان قد اشاد في عيد الجيش في الواحد من آب بما تحقق من انجاز وطني في جرود عرسال «واللبيب» من الاشارة يفهم..
فرئيس الجمهورية يدرك، بان رهاناته تنتصر في المنطقة، ويعرف جيدا ان حليفه حزب الله يقوم بالعمل الصحيح لحماية الخاصرة الشرقية «الرخوة»، وقد ترجم هذا الامر في اندفاعة رئيس التيار الوطني الحر وتبنيه لخطوات حليفه، ودعوته لاعضاء التيار للمشاركة في مهرجان التحرير الثاني في بعلبك، وهو استدراك على درجة كبيرة من الاهمية لازالة بعض الالتباسات العالقة والتي نشأت اثر النقاشات حول قانون الانتخابات، وقد «استغل» رئيس التيار الوطني الحر جيدا الحدث الراهن لترميم علاقته الشخصية مع الحزب، لاعادتها الى «سكتها» الصحيحة….
وفي الخلاصة، كما كانت المعارك العسكرية تتحدث عن نفسها في الميدان، فان التطورات السياسية ستسلك الطريق نفسه في الايام والاسابيع المقبلة، ميدانيا سيكون حزب الله حيث يجب ان يكون، المهمة انجزت في لبنان لكن «الشغل ماشي» في سوريا، تحرير الجرود «سيحرر» نحو ثلاثة آلاف عنصر من المقاومة كانوا منشغلين في ادارة ملف حماية تلك المنطقة، ومع تسلم الجيش قريبا لما تبقى من مواقع في الجرود اللبنانية، سيبقى للحزب نقاط استراتيجية محدودة على الجانب السوري، بينما سيتفرغ القسم الاكبر من المقاتلين لجبهات أخرى…وفي الشق السياسي ليس على «اجندة» حزب الله اي رغبة في تدفيع الاخرين اثمان خياراتهم الخاطئة، لا مصلحة لديه في «تفخيخ» جبهته الداخلية، ويوما بعد يوم سيزداد «خصومه» تواضعا، ولو كان لتحركاتهم اي افق لكان استقال وزراء القوات اللبنانية من الحكومة احتجاجا، لكن الجميع يدرك ان الافق مسدود، ولا يمكن تجاوز الوقائع والمتغيرات في المنطقة، فسوريا حقيقة جغرافية لا مناص من الهروب منها،عودة العلاقات الرسمية مع الدولة السورية، لن يتم فرضها على احد، ولكنه سيتحول مستقبلا الى حاجة ضرورية، ولن يستطيع اي رئيس حكومة اي يستمر في المكابرة، خصوصا بعد انهيار التحالف الاقليمي والدولي المعادي للرئيس الاسد… ولذلك فان الامور متروكة للوقت، وهو كفيل «لتبريد الرؤوس» الحامية واعادتها الى جادة الصواب..
(الديار)