احداث الحرم: اللواء احتياط يعقوب عميدرور
قبل سنوات جيل أخذتُ المسؤولية في جهاز الاستخبارات عن دولة هامة في المنطقة. وفي احد الايام وقع فيها حدث شديد، وفي التقويم الاستخباري في الغداة قلت ان هذه الدولة لن تعود لتكون هي نفسها قبل الحدث. مرت منذئذ نحو 40 سنة، وبقيت الدولة كما كانت، والان يتحدثون فيها عن تغييرات، ولكن هذه يتصدرها الحكم نفسه، وليس مؤكدا ان تتحقق. لاحقا كنت شاهدا او شاركت في احداث كبيرة اخرى كان يخيل للحظة بانها ستغير العالم، والعالم عاد كعادته وكأن شيئا لم يكن. أتذكر زعيما اسرائيليا نال العظمة واعتقد بانه بسبب ظهوره على مسرح التاريخ في منصب هام، فان المحيط سيغير سلوكه – وهو الاخر خاب ظنه. من كل هذه الاحداث تعلمت قاعدة هامة خدمتني جيدا في لاحق الطريق، عندما وقفت امام احداث كبرى بدت في حينه كاحداث “تغير الواقع ″.
تعلمت انه في نظرة ابعد الى الوراء، بعد أن يكون مرت الدهشة الاولى، ويكون هناك بعض العمق واساسا بعد أن يسمح الزمن في استيعاب الحدث وادخاله الى صورة اوسع – هناك امكانية لفهم جوهر الحدث على نحو افضل. في حالات عديدة توضح المسافة بان الحدث، مهما كان صادما في حينه، لم يغير الواقع، و “عادت الحياة الى مجراها”. أما اليوم فالتناقض بين ما اعتبر عظيما عند حدوثه وبين تأثيره الحقيقي على الوضع، يبدو حتى اكثر تطرفا. احد اسباب ذلك هو لان وسائل الاتصالات الحديثة، مثل التويتر، الفيس بوك والانستغرام، تجذب بسبب طابعها في اختصار وصف الاحداث، والنشر بدون رقابة والتحليل الفوري، ومرغوب ان يكون هذا ايضا قصير قدر الامكان. فضلا عن ذلك محظور اليوم “الحفر”، اي ان يكون المرء جذريا، واحيانا الوسيلة نفسها تقيد الوصف الى عدد قليل للغاية من الاحرف، وبالتالي لا يوجد سبيل لشرح الامور بعمق حتى من الناحية الفنية. في التلفزيون ايضا تقاس كل ثانية ولا يوجد وقت للاحاديث. عندما يكون هذا هو الوضع، تكون اهمية متزايدة للبحث والمراجعة اللاحقة والاعمق في المواضيع التي تطرحها على جدول الاعمال في النقاش الجماهيري، وهذه هي احدى المهام الهامة للصحافة بل ولعلها اهم من السبق الاعلامي والكشف الاعلامي، إذ هذه توجد بوفرة حتى في وسائل التواصل الاجتماعية الفورية. وبالمقابل تكاد لا تكون هناك وسيلة تواصل معمقة وان كانت حيوية لكل من يريد ان يفهم عالمنا على نحو افضل، ولا يكتفي بالتفسير الفوري الذي يكاد يكون دوما اكثر ضحالة أيضا.
معالجة جذرية للجناح الشمالي
يبدو أن من السليم تطبيق هذا المبدأ على احداث الحرم وزيارة الملك الاردني الى رام الله. كان يبدو ان احداث الحرم ستحدث ثورة في مثلث العلاقات بين اسرائيل، الفلسطينيين والاردن. وبدا للكثيرين البندول الاسرائيلي في عملية اتخاذ القرارات كشيء سيمس جدا بصورة اسرائيل بل وربما بمكانتها. فما هو الواقع بعد مرور بضعة اسابيع؟ يبدو ان تعبير “العالم كعادته يسير” سيكون الوصف المناسب للوضع.
اصحاب القرار في دولة اسرائيل اهتموا بالحرم كمكان منعزل يمكن الاهتمام به بحد ذاته. وان كان في السياق الضيق، المحلي كان منطق كثير في نصب البوابات الالكترونية في مداخل الحرم بعد القتل الذي جرى فيه، الا ان الحرم تصب فيه ايضا معان تتعلق بالفلسطينيين، بمواطني اسرائيل وبسكان يهودا والسامرة، الى جانب الاهتمام الكبير للاردن، وذلك وفقا للاتفاق الذي بين اسرائيل والدولة الهاشمية التي يسكن فيها الكثير من الفلسطينيين ايضا.
وبالفعل، لم يتأخر الرد. ولهذا السبب تراجعت دولة اسرائيل عن نيتها نصب البوابات الالكترونية عن مداخل الحرم. كان يخيل للكثيرين بان مكانة اسرائيل تضررت بشدة بسبب تراجعها ولكن في نظرة الى الوراء يبدو أنه لم يقتطع اي شيء من قوتها. العكس هو الصحيح: التراجع يشير الى نضج وثقة بالنفس. ما أن نشأ الفهم بان هذا لم يكن المكان ولا الرأي للاثبات بان دولة اسرائيل هي دولة قوية – لم يكن معنى للاصرار. فاسرائيل قوية بما يكفي كي ترد بالرفض لطلبات الاردن في نطاق الحرم، ولكن هل ستحقق مصالحها على نحو افضل اذا ثارت اضطرابات واهتز كرسي عبدالله بسبب ما يجري في القدس؟ يبدو أن الرد المنطقي سيكون “لا”. وعليه فخير فعلت اسرائيل إذ استجابت للطلب الاردني وخففت عن حليفها في مكافحة الارهاب. الاختبار الحقيقي ليس في ادخال البوابات الالكترونية وخلق الفوضى بسبب ذلك – بل في المعالجة العاقلة والجذرية للحركة الاسلامية الاسرائيلية التي تسمح “الجناح الشمالي للحركة الاسلامية”. سنوات عديدة جدا اتيح لهم العربدة في الحرم، ويجب ايجاد الطريق لوقف ذلك. اذا اوقفت اسرائيل الحركة ومست بجاذبيتها، فاحد لن يذرف دمعة على ذلك – لا في الاردن ولا في السلطة الفلسطينية.
من يحتفظ بالاوراق حقا؟
ومن هنا الى زيارة ملك الاردن الى رام الله. أشار الكثيرون الى “العزلة” التي يزعم انها فرضت على اسرائيل، إذ ان التقى ابو مازن وليس رئيس وزراء اسرائيل. غير أن قراءة اعمق قليلا لبيانات الاطراف في الزيارة، التي كانت اقصر مما كان خطط لها، تشير الى أن الطرفين رأيا واختبرا زيارتين مختلفتين في ذات القفزة التي قام بها الملك للضفة الغربية. فقد شدد الفلسطينيون على لازمة الحرم وكأن هذا كان مركز المحادثات في الزيارة. اما الاردنيون فابرزوا الحاجة الى العودة الى المفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين بقيادة امريكية – من ناحيتهم كان هذا هو موضوع الزيارة. وفي حقيقة الامر، كانت الزيارة مؤشرا آخر على ضعف ابو مازن، وشددت زيارة الملك على ذلك. تبين ان المحادثات بين اسرائيل والاردن هي التي ادت الى تغيير القرارات وتثبيت الواقع الجديد في الحرم. كل طرف ساهم بدوره (كان للاردنيين “حظ” مع حدث الحارس، مما اتاح لهم ان يضعوا على الطاولة تنازلا حقيقيا) بينما ابو مازن لم يكن طرفا في الخطوة. هكذا كان بوسع الملك ان يأتي الى ابو مازن وعلى لسانه طلب او مطالبة باستئناف المفاوضات مع اسرائيل.
* * *
في نظرة الى الوراء يمكن القول ان احداث الحرم مع كل خطورتها تكاد تكون لم تؤثر على علاقات اسرائيل مع الاردنيين او مع الفلسطينيين. فالسلطة بقيت ضعيفة كما كانت واسرائيل تمكنت بشكل راشد ومسؤول من الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع المملكة من الشرق.
في هذه الحالة ايضا يبدو أن العناوين الرئيسة في يوم الحدث والتفسيرات اللحظية بعد ذلك لم تستخلص المعاني الحقيقية. فقد تبين مرة اخرى بان احداثا من هذا القبيل، بكل خطورتها وحساسيتها، لا يمكنها ان تغير الواقع الذي تقرره موازين القوى الحقيقية بين الجهات المختلفة. حتى لو بدت علاقات القوى للحظة تهتز وتتلقى لونا مختلفا، فهذا مؤقت في الغالب. وبالتالي يجدر بنا الحفاظ على التوازن وعلى برودة الاعصاب عند الحدث والتذكر بان حجم العنوان سينسى في الغداة.
إسرائيل اليوم