“التفلت والتسيّب” العميد منير عقيقي
يقول الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي:
“الحرية التي لا حدود لها تؤدي الى الطغيان المطلق“.
ويا للأسف، فإن الامور التي يشكو منها الناس لم تتغير رغم الجهد الذي يبذل في هذا الاطار. ويبدو ان كل شيء في لبنان يُظهر كأن الرابطة الأشد متانة بين اللبنانيين هي التعاطي العنفي، او ما يسمى بـ “التفلت والتسيب” من القيود الاجتماعية وقيمها التي تنظم العلاقة بين ابناء المجتمع، بحيث بدأت هذه المظاهر تتبدى على سلوكيات الناس وتصرفاتهم. صار اللبنانيون يقاربون التفلت والتسيّب بكل انواعهما كأنهما تصرف طبيعي. من يتخلف عنهما يُسجل نقيصة عليه. أصبحا موجوديْن في كل الأمكنة. عند نواصي الطرقات الفرعية والرئيسية، في الاحياء والنوادي الليلية وفي المنتجعات والمطاعم. وما الحوادث المختلفة التي شهدتها بعض المناطق اللبنانية سوى نموذج مخيف بدلالاته، القتلى او المصابون المظلومون لم يُعنِّفوا القتلة لفظيا او جسديا، حتى انهم لا يعرفوهم. اضحت قيادة السيارات او ارتياد اماكن الترفيه عن النفس، التي ينبغي قبل أي شيء ان يعود روادها سالمين إلى ذويهم ومنازلهم، مرتعا تتجمع فيه كل علامات القلق على مصير مجهول من اولئك الذين لا يؤمنون بالعقد الاجتماعي القاضي بالتنازل عن العنف وقوننته لصالح سلطة عادلة ومحقة.
ويا للاسف، نقولها مرة ثانية عندما نرى ان منسوب مؤشرات التفلت والتسيّب في ارتفاع مستمر. اما الردع فيذوي شيئاً فشيئا. فمناسبات الفرح على انواعها يخالها المرء جبهات قتال لا تعرف هدنة. ومثلها المآتم. وعلى غرار الاثنين يحتفل بعض الاهالي بنجاحات “بدائية” لأولادهم، غير عابئين بالمدنيين الابرياء الذين يسقطون، لا لشيء إلا لأن نتائج احدى الشهادات قد صدرت. ورغم من كل التحذيرات التي صدرت عن الجهات المسؤولة، استمر البعض في التحدي ولم يرف له جفن عندما رأى نتيجة تهوره. ما حصل، وما قد يحصل إذا ما استمر الحال على ما هو عليه لا يُنبىء بغير تحلل العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الدول، وبات التفلت انواعا وما انفك يتوالد في كل الاتجاهات.
ان رد فعل الرأي العام اللفظي، او عبر الاعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، لما صار ظاهرة مُرعبة ومُقلقة، لم يعد كافيا. فالوضع يفرض معالجة سريعة ودائمة في كل الاتجاهات وعلى كل المستويات، لأن التفلت والتسيّب في ميادين مختلفة، من قبل اشخاص يدوسون كرامات الناس غير آبهين بالقوانين والانظمة، يراكمان السلبيات في وجوههما المختلفة فتؤسس مجتمعا عنفيا يدمر الانسان ويقضي على الدولة. كأن لبنان لم يساهم يوما في اطلاق شرعة حقوق الانسان.
قد يقول قائل ان التفلت والتسيّب ليسا مقطوعَي الصلة عن واقع البلد وترديه على كل المستويات من بيئية واقتصادية وسياسية وغذائية واجتماعية. لكن ذلك مردود جملة وتفصيلا، لأن ما من شيء منع اللبنانيين او يمنعهم في اختيار من يرونه الأمثل للتعبير عن طموحاتهم وبناء مستقبل آمن لأبنائهم وأحفادهم.
في المبدأ لا يمكن ان يكون التفلت والتسيّب إلا عنفا ثم ارهابا مدمرا أينما حل. هذا يعني في النهاية “جريمة”. لا يمكن تبريرهما في حال من الأحوال طالما يتوالدان تحت أعين المباني الدستورية والحقوقية للدولة. التفلت والتسيّب في الأصل هما من طبيعة بربرية كانا قبل قيام المجتمعات المدنية ومن ثم تطورها نحو بناء الدول.
ما يبعث على القلق، هو تدني مستوى المناعة الديموقراطية عند اللبنانيين بازاء تصاعد التفلت بكل جوانبه وطغيانه على المشهد العام. الثابت انه إذا لم تتم معالجة هذه الهمجية، فالنتيجة ان العنف – الوحش سيلتهم الجميع ومن دون ان يستأذن او يستثني أحدا.
الكاتب هو رئيس تحرير مجلة ” الأمن العام “