عقوبات أم أزمة مع الذات د.بثينة شعبان
أصدر مجلس الأمن منذ أيام قراراً بفرض عقوبات على كوريا الشمالية، وكانت الولايات المتحدة ومن بعدها أوربا قد فرضت عقوبات على روسيا دون أي مبررات تذكر، بل على العكس في الوقت الذي تسير فيه المحادثات بين روسيا والولايات المتحدة مساراً إيجابياً في عدد من الملفات. أما العقوبات المفروضة على العراق، وسورية، وليبيا، واليمن، والعقوبات التي يتمّ التلويح بها ضد دول أخرى فحدّث ولا حرج. والدراسات الغربية تعترف في أكثر من مناسبة بفشل هذه العقوبات في تحقيق الغرض المرجوّ منها، بل أكثر من ذلك فإن الدول التي تتعرض لعقوبات طويلة الامد أمثال كوبا، وإيران، تعتمد على ذاتها وتبدع في ملفات عديدة، بحيث يمكن القول أن هذه العقوبات أثبتت أنها نعمة بدلاً من كونها نقمة كما أراد لها الغرب أن تكون، ولكنّ الدافع اليوم لمثل هذه العقوبات يكاد يكون نفسياً لأنّ الغرب الذي اعتاد أن يفرض إرادته كيفما شاء، يواجه اليوم تحديات جمّة داخلية وخارجية، وبنيوية، ومصيرية أيضاً، ولذلك فإن فرض مثل هذه العقوبات والحديث عنها يعيد لهذا ((الغرب)) أو هكذا يظنون، جزءاً من هيبته المفقودة، وكرامته المهدورة. وليس هناك أي مبالغة في مثل هذا القول إذ أن مصداقية الدول الغربية لدى معظم دول العالم تشهد انحداراً لا سابق له. والمصداقية، والهيبة كلمتان غامضتان ولكنهما مفتاحيتان جداً عند أي تقييم حقيقي. إذ مازالت الدول الغربية قوية عسكرياً وإلى حد ما اقتصادياً، ولكنّ صدقها ومصداقيتها في نظر غالبية دول العالم يعانيان من أزمة حقيقية. وفي مراجعة بسيطة لخطط الغرب للمنطقة التي نعيش فيها، والمصير الذي آلت إليه هذه الخطط تكشف أن العالم يتغير بطرائق مغايرة لكلّ الخطط الموضوعة. والجهود المبذولة. وهنا لا أقللّ أبداً من حجم الدمار، والآلام التي تسببّ بها هذا الغرب لعشرات الملايين من العرب قتلاً وتهجيراً، وتدميراً لمدنهم، وحياتهم نتيجة الحرب الإرهابية التي يشنها الغرب عبر داعش، والنصرة، والعصابات الإرهابية الأخرى، ولكني أنظر إلى المستقبل المتوسط والبعيد لأرى تأبين خططهم وانتصار الشعوب عليها وتحوّل هذا العالم عبر مسار لم يكن يفكّر به الغرب أو يرضاه. لقد أرادت الولايات المتحدة من الحرب العراقية_ الإيرانية، استنزاف البلدين في ثمانينات القرن الماضي وتدمير العراق كلياً في مطلع هذا القرن، وقد سببت حربها هذه الكثير من الدمار والألم لهذين البلدين خلال العقود الماضية سقط خلالها مليون قتيل من كل بلد بهدف أضعاف البلدين، ولكن النتيجة هي أن إيران اليوم أصبحت دولة إقليمية قوية عسكرياً، واقتصادياً، وسياسياً، لا مناص للغرب من التعامل معها بندية كما أنّ العراق الذي كان قد خرج قوياً زج به الغرب في حربين متتاليتين، وبهدف تدمير دوره وقوته الإقليمية وها هو يعيد تشكيل نفسه وقواته ويخوض معارك ناجحة ضد الإرهاب المخطط والممّول والمسلّح من قبل الغرب، والدول التابعة له وللعراق مستقبل واعد ولديه الإمكانات التي تؤهله أن يضع ذاك المستقبل الزاهر لو أفلت من تأمر الأعداء والأشقاء على حد سواء. هناك تباين واضح اليوم في استراتيجيات الغرب بحيث أن ممثلة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تعبّر عن انفتاح أوروبا على إيران، بينما مازالت الولايات المتحدة تستعمل التهديد والوعيد. وأحد الأسباب هو عدم قدرة الولايات المتحدة داخلياً على اتخاذ قرارات حازمة سواء مع إيران، أو روسيا، أو الصين، أو مع أيّ ملف آخر مطروح أمامها اليوم.
وأمام هذا التراجع الأكيد في هيبة ومكانة الغرب لجأ الغرب إلى القلّة القليلة التي مازالت تفكّر أنّ الغرب قوة استعمارية ضاربة، ووعد أحد بلدانها بالزعامة على دول الخليج، وفي المنطقة إذا ما تكاتفت معه في تمويل وتحقيق أولوياته في المنطقة. والأولوية الأولى هي تفكيك قدرة العرب أكثر وأكثر من خلال الاستمرار في استهداف اليمن وتمويل الإرهاب في سورية والعراق، وتفتيت القوى الوطنية حيثما تيسر ذلك تحت عناوين عرقية وطائفية، وحتى مذهبية، واستخدام الأبواق والمواضيع الإقليمية لتمرير كلّ ما يخدم الصهيونية ومخططاتها المستقبلية. والأمور هنا لا تحتاج إلى كشف عن وثائق أو إلى براهين ملموسة، إذ أنه من الواضح، ومنذ اليوم الأول، أنّ كلّ من يساهم في إضعاف سورية وليبيا واليمن والعراق يخدم دون شكّ مصلحة العدوّ الصهيوني ضدّ مصلحة فلسطين والعرب، ولذلك فإنّ الكشف اليوم عن التعاون الإسرائيلي مع الإرهاب والتمويل والتسليح الأمريكي والغربي له هي مجرّد تفاصيل أثبتت صحتها الوقائع قبل أن يتمّ الكشف عنها. وكذلك اليوم اختلاق الخلافات المصطنعة بين أبناء البلد الواحد وحتى الدين الواحد هو مكر سياسي هدفه إيقاف عملية القوة التي هزمت داعش في الموصل والمصممّة على تحرير العراق من الإرهاب والاحتلال الأمريكي، وفتح الحدود العراقية السورية، والسورية اللبنانية، ورصّ الصفوف لدفن سايكس بيكو، وخلق مستقبل يطمح له أبناء هذا الجيل. الكثير إذاً مما يتمّ الترويج له في بلداننا اليوم نابع من اختراقات يعمل عليها غرب مهزوم، ويستخدم بعض ضعاف النفوس من الحكام والعملاء، مهما بلغت حساباتهم المصرفية، لدبّ الفرقة والتشويش على الموقع المتقدم الذي صنعته تضحيات الأبناء الخلّص. التمسك بالرؤى الواضحة وثبات الموقف أمران جوهريان في زمن نصنعه بتضحياتنا، ويحاولون اغتياله بتهويلاتهم واستخدام العبيد من لدّنا لتمرير مشاريعهم المهزومة أصلاً وفعلاً ومستقبلاً.