تقارير ووثائق

تقهقر الديبلوماسية الاميركية د.منذر سليمان

        اعتاد الشعب الاميركي على التسليم بالسردية الرسمية منذ الحرب العالمية الثانية وتأييد انخراط / تدخل حكومته في مناطق مختلفة من العالم استمراراً لنظرية “التفوق الاميركي.” بيد ان التحولات والمتغيرات على الساحة الدولية، وبروز عالم متعدد الاقطاب، جدد النظرة النقدية لتلك المسلمات.

        ولاول مرة “منذ نصف قرن” من الزمن تعرب غالبية من الشعب الاميركي عن ضرورة مراجعة ساسة البلاد للتمدد الاخطبوطي في العالم “وايلاء الفرصة للدول الأخرى لتدبر أمورها بنفسها،” وفق استطلاع اجراه معهد “بيو” نهاية عام 2013؛ وهو الذي اشار الى مسألة “أول مرة ..” وأضاف ان نحو “80% من المستطلعة اراءهم يرون الأولوية ينبغي ان تكون لمعالجة التحديات الداخلية.”

انحسار رغم عكس الاصرار

        هذا “الاعتراف” يشير الى تحسس ملموس لدى صناع القرار بتراجع الدور العالمي للولايات المتحدة، إذ “تدخلت روسيا في شبه جزيرة القرم لتذكِّر بأنها لا تزال (أحد) أبرز وأقوى لاعب في مداها الجغرافي،” حسب وصف اسبوعية ناشيونال انترست المحافظة، 16 نيسان 2014.

واردفت ان “الجمهور الأميركي لن يؤيد مغامرات وما ينطوي عليها من أكلاف مادية لا تهدد الأمن القومي الاميركي بشكل مباشر؛” وفي الخلفية ما آلت إليه سياسة “الربيع العربي” الدموي والتدميري.

من اليسير بمكان رصد تحذيرات أقطاب الفكر والسياسة، أهم أركان المؤسسة الحاكمة، من “تراجع النفوذ الاميركي،” ومسميات متعددة مشتقة منه، في وقت مبكر. ابرزها: منظر المحافظين الجدد في اميركا، فرانسيس فوكوياما الذي بشر بصراع الحضارات مطلع الألفية الثانية، بمقال نشره في اسبوعية نيوزويك، مطلع تشرين1 / اكتوبر 2008 بعنوان فاضح “إنهيار أميركا كمؤسسة،” وإقراره بأن الادعاء بنشر “الديموقراطية .. ما هي إلا كلمة السر للتدخل العسكري وتغيير أنظمة الحكم.”

وفي المجال الاكاديمي أيضاً، صدور سلسلة من الكتب حول العنوان عينه، انحسار النفوذ الاميركي. منها نتاج رئيس برنامج السياسة الخارجية الاميركية في جامعة جونز هوبكنز، مايكل ماندلبوم، ويعتبر أحد أهم خبراء السياسة الخارجية الاميركية، لمؤلفه المرجعي القوة العظمى المُقتَصِدَة: القيادة الاميركية للعالم في حقبة الضائقة المالية، عام 2010.

انطلق ماندلبوم من رصده لمسار السياسة الخارجية بالقول ان “العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين .. سيشكل بداية تضاؤل الدور الاميركي عالميا وربما انهيار القوة العظمى تدريجيا.” اما مسألة التوقيت فهي عملية صيرورة تاريخية لا تحتكم لأفضل التوقعات تفاؤلاً أو تشاؤماً. أتبعه بكتاب صدر حديثا، 2017، بعنوان فشل المهمة: أميركا والعالم في ما بعد عصر الحرب الباردة، معتبراً أن جذر “الفشل” هو اسراف اعتماد الرؤساء الاميركيين على القوة العسكرية الصرفة.

وتناولت وسائل الإعلام المختلفة تلك الفرضية لتؤسس عليها بالقول ان “التجربة السورية كشفت انحسار الديبلوماسية الاميركية،” فاينانشال تايمز  11 أيلول 2013؛ شاطرتها الرأي اسبوعية يو أس نيوز آند وورلد ريبورت، 22 أيلول 2015، الأميركية بتقرير عنوانه الفوضى السورية مؤشر على صعود روسيا وانحسار أميركا.

الإقرار بالتراجع وإن بوتيرة متباينة يعيد الجدل الى الداخل الأميركي الذي يشهد ترددات تلك الحالة على اوضاعه، خاصة حالة الانقسام الداخلي “بشكل غير مسبوق منذ الحرب الأهلية،” وادراكه المتأخر بعض الشيء لعجز القوة العسكرية الاميركية “تحقيق نصر في أفغانستان والعراق،” ونضيف سوريا.

أفول الديبلوماسية الاميركية

يثابر وزراء الخارجية الاميركيون المتعاقبون على رسم معالم تحركاتهم المقبلة، تحت مسميات عدة لاعطاء الأولوية للحراك الديبلوماسي في معالجة الصراعات الدولية، الديبلوماسية الصبورة، التي دشنها وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر.

مطلع الاسبوع المنصرم، اعتلى وزير الخارجية ريكس تيلرسون المنصة ليعلن رؤيته لمسار الاحداث الدولية ودور بلاده، بعد انقضاء ستة أشهر على تسلمه مهامه، في ظل تسارع التكهنات حول بقائه في منصبه في عهد الرئيس ترامب الذي يفضل “التوجه المباشر” عبر وسائط التواصل الاجتماعي لاعلان المواقف.

إنه “عصر نفاذ الصبر،” كما وصفته يومية نيويورك تايمز، إبان ولاية الرئيس اوباما الثانية، للدلالة على “عدم الجهوزية او توفر النية للتحدث مع الآخرين،” بل السير على هدي القوة العسكرية.

أحد الديبلوماسيين الاميركيين السابقين وصف ما أسماه “زوال الديبلوماسية،” او المنهج التقليدي في ادارة الأزمات بأنه ناجم عن “تسلم المؤسسة العسكرية ووكالة الاستخبارات المركزية مقود السيارة .. رافقه اضمحلال دور المهنية الديبلوماسية.”

رئيس صندوق الأخوين روكفلر الخيري، ستيفن هاينز، كان أشد وضوحاً في رسالة حررها لصحيفة نيويورك تايمز، مطلع عام 2013، بالقول “عندما تؤول السياسة الداخلية الى حالة الاستقطاب والشلل يصبح التأثير على اعتماد الديبلوماسية مقيّد بشكل غير عادي.” بعبارة أخرى، يجري توظيف السياسة الخارجية كرصيد يضاف الى التجاذبات الداخلية.

يستطيع المرء رصد بعض التحولات ذات الطابع السلوكي في توجهات الرئيس ترامب، وعدم ثباته عند قيود خطابه الانتخابي لا سيما في بعد تفضيله الانخراط مع “الشركاء والحلفاء،” بدلاً من المناداة بالإنعزال، كما تجسد في “مراجعته” لموقفه من ضرورة الحفاظ على إطار حلف الناتو، وتوجهه مبكراً للتواصل مع الرئيسين الصيني والروسي.

في هذا السياق تنبغي الإشارة الى الدور المركزي لوزير الخارجية ريكس تيلرسون، وتراثه المتأصل في عقد الصفقات والتسويات، وكذلك لحليفيه في الادارة: وزير الدفاع جيمس ماتيس ورئيس مجلس الأمن القومي هيربرت مكماستر.

كما أن الاضطرابات التي عصفت، ولا تزال، بطواقم البيت الأبيض لم تؤثر على لحمة الثلاثي المذكور، وتيلرسون بشكل رئيس كما يشهد على ذلك ظهوره سالف الذكر لتجديد التأكيد على عناصر ومواقف السياسة الخارجية للرئيس ترامب “التي ترشد صياغتنا للسياسة المرادة هنا في وزارة الخارجية.”

اما الملفات الخلافية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية فقد سعى تيلرسون إلى إعلاء صوت الرئيس ترامب الذي “يعود له الفضل في إدخال تعديلات جوهرية” على عناصر السياسة الاميركية منذ انقضاء عصر الحرب الباردة، وذلك بالرغم من تكهن أبرز منابر الاعلام “الليبرالي،” صحيفة نيويورك تايمز بقولها في وقت سابق ان “الديبلوماسية متوفاه.”

تتبادل السلطتان الاتهامات بعدم وضوح الرؤيا للآليات الضرورية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الاميركية، وغياب استراتيجية عليا. الأمر الذي مهد الأرضية للحزبين في مجلس الشيوخ للإلتفاف على ونزع صلاحية رسم السياسات الخارجية من البيت الابيض، عبر تمرير قانون العقوبات الجديد المفروضة على روسيا وايران وكوريا الشمالية.

أما الصين فقد أكد تيلرسون على تسريع الخطى لنسج “علاقة شراكة معها،” لإدارة ملف كوريا الشمالية النووي مردداً أن بيجنغ “تشاطر (واشنطن) الاهداف في رؤية أراضي كوريا الشمالية خالية من الأسلحة النووية.”

السردية الحديثة لتيلرسون تنبيء بنهج سياسي يركز على تحقيق نتائج في المدى المنظور حصراً، على أبعد حد، بدلاً من الأسس التي ارساها أبرز أقطاب السياسة الخارجية الاميركية، هنري كيسنجر، بميله لتحقيق أهداف طويلة الأجل وما يقتضيه من تأن وهدوء وبصيرة ورؤية شمولية.

تيلرسون لم يكن استثناءً في تحقيق أهداف قصيرة الأجل، بل امتداداً لأسلافه منذ عهد الرئيس باراك أوباما: هيلاري كلينتون وجون كيري. بالمقابل، رمت “مدرسة كيسنجر” إلى الحفاظ على توازن القوى الدولية “والإقرار بالمصالح القومية للدول الاخرى،” مما أسهم في مواصلة القارة الاوروبية استقرارها الى حد بعيد، كما يردد كيسنجر.

الاعتراف بمصالح القوى الأخرى ليس له وجود في مفردات القاموس السياسي الاميركي، لا سيما في عهد ترامب ومراكز القوى المنضوية في مفاضلة شن الحروب على الخيارات الأخرى. بيد أن متطلبات “السياسة الواقعية” اقتضت من اولئك مجتمعين إلى “مهادنة” الصين في مسألة كوريا الشمالية.

تمثلت “المهادنة” في إعلان تيلرسون بأن الأهداف الأميركية في شبه الجزيرة الكورية لا تتضمن سياسة تغيير النظام القائم، مطلب كانت تسعى لإنتزاعه كوريا الشمالية منذ تقسيمها بداية عقد الخمسينيات من القرن الماضي. كما أنه “إقرار” بالكلفة الباهظة للخيار العسكري الأميركي ولتداعياته على الصين بالدرجة الاولى.

الغطرسة” التي تميز السياسة الخارجية لأميركا تجد تجلياتها في تحقيق أهداف آنية وعدم الاكتراث لمصالح الدول الأخرى، الأمر الذي أضطرت معه مراكز صنع القرار الى تجاوز أبرز العقبات في ترسيم سياسة خارجية ناجزة.

وما يعزز هذه الفرضية تصريحات الرئيس ترامب، ومن ثم وزير خارجيته تيلرسون، الإقرار بوجود خلافات مع روسيا وعدم التوصل لحلها في الزمن المرئي، والقول لقد “اتفقنا على الا نتفق،” وكل منا يسير على هدي مصالحه.

كما تجسدت في صراع القطبين على وفي سوريا، على ضوء الإنجازات المتلاحقة للدولة السورية وتقلص سيطرة ونفوذ المجموعات المسلحة المدعومة اميركيا. رمى تيلرسون، في اطلالته، بعضاً من غصن الزيتون والإعتراف بمصالح روسيا التي “نعمل سوياً وإياها كي نتوصل لمرحلة تحقيق الهدف النهائي المتمثل بوحدة الاراضي السورية .. وإرساء الاستقرار هناك في مرحلة ما بعد القضاء على داعش.”

تجدر الاشارة عند هذا المنعطف إلى أن ذاك السياق هو ما نادى به وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، في مقال نشره في يومية وول ستريت جورنال، قبل نحو عامين. من بين ما ركز عليه كيسنجر حينئذ أن “الاولوية ينبغي أن تعطى لالحاق الهزيمة بداعش وتتفوق على (هدف) تغيير النظام في سوريا.” كما تطرق الى روسيا معتبراً “تدخلها قد يسهم في اعادة الأمن للشرق الاوسط .. إذ تحكمها حساباتها الجيوسياسية بدلاً من الاعتبارات الإيديولوجية.”

ومضى كيسنجر محذراً من “فقدان الولايات المتحدة القدرة على التأثير في صياغة الاحداث،” نتيجة تراجع النفوذ الاميركي وحالة صدامها الراهنة مع كافة الاطراف تقريبا وتباين الآراء حول مدى “عزم اميركا فهم وصياغة عالم جديد.”

من الإنصاف أيضاً النظر الى سياسة الثنائي ترامب – تيلرسون حيال سوريا بأنها تشكل صدىً لتوجهات كيسنجر “المستشار غير الرسمي لشؤون السياسة الخارجية” لإدارة ترامب. يشار أيضا إلى لقاء مطول جمع الرئيس ترامب بكيسنجر في شهر أيار الماضي قبل لقاء الأول لاحقا مع الرئيس بوتين.

خرج الرئيس ترامب مزهواً من لقائه كيسنجر، مؤشراً على اعتماد “الواقعية” كمدخل لسياسة خارجية ناجحة قائلاً “لقد تحدثنا بشأن سوريا وأعتقد أننا سنرى نتائج ايجابية جدا هناك .. تطورات تجري متسارعة طابعها ايجابي جداً.”

وربما أدرك ترامب، من عمر ولايته الوليدة، أن مقياس الديبلوماسية الناجزة يتطلب عقوداً، وليس أياما معدودة. بيد إنه سيصطدم مراراً وتكراراً بحاجز القوى النافذة في الحزبين التي تمضي في المراهنة على “التفوق الاميركي” كمبرر للتدخل والهيمنة، وتكديس الانجازات قصيرة الأجل علامة لنجاحها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى