بقلم ناصر قنديل

التفاوض حرب بوسائل أخرى

ناصر قنديل

 – تحمل مسيرة التفاوض التي رافقت حروب المقاومة ما يكفي لدراسة علم الحرب والتفاوض وتداخلهما، وكيف يكون التفاوض حرباً بوسائل أخرى، بل كيف تكون مكاسرة الإرادات في التفاوض أشدّ صعوبة وتحتاج إلى مهارات وكفاءات، وقبلها إلى إرادات وعزائم أشدّ من تلك التي تستدعيها الحرب. وقد يكون هذا الكلام برانياً وبلا حرارة للذين لم يشعروا من اللبنانيين بأنّ بضعة كرامة إضافية تكلّل بالغار رؤوسهم، لا الآن ولا في تموز 2006، ولا أنّ بعضاً من أرض بلادهم كان رهينة وتحرّر، أو أنّ بعض لحمهم ودمهم عام 2006 كان مرتهناً وعاد حراً، لكن بين اللبنانيين أغلبية كاسحة باتت تشعر بعظمة الإنجاز ويعنيها فهم حجمه، وبعض كثير في الخارج يتابع عن كثب هذه التجربة المبهرة في كفاءاتها الحربية كما مهاراتها وعزائمها التفاوضية .

كما في حرب تموز المقاومة وبعض لبنان الرسمي على ضفة التفاوض، وبخلاف تموز 2006 لا وجود لقوة ضغط عكسية من داخل الدولة، لتهوين الإرادة وتخفيض السقوف، لكن المهمّ هذه المرة أنّ الجانب الرسمي كان بصلابة المقاومة في التعامل مع السقوف التفاوضية، لكنه كان يبني صلابته على قرار ستتحمّل المقاومة تبعاته بالعودة إلى ميادين القتال لو تعثر التفاوض كلياً. وهنا هي اللحظة التاريخية في كلّ تفاوض، فكما في تموز مرّت تلك اللحظة، ومرّت هذه المرة، عندما يبلغ الطرف المقابل على ضفاف التفاوض شروطاً يقول إن لا رجعة عنها، وتكون شروطاً تمنح المقاومة والدولة الهدف الرئيسي للمفاوضات، وهو في تموز انسحاب «إسرائيل» من النقاط التي تقدّمت إليها ووقف الحرب والإفراج عن الأسرى، لكنه يرفع الثمن ليصير برمزيته مؤشراً على انقلاب الصورة بين المنتصر والمهزوم. ففي حرب تموز كانت المسألة هي الفصل السابع، وفي مفاوضات النصرة. وبالأمس، كانت المسألة هي المتهمين والمطلوبين والموقوفين بجرائم إرهابية لا يمكن التسامح معها. في المرتين قدّم المفاوض على الضفة المقابلة قبولاً بالمطالب الرئيسية وبدأ يزيّن مطالبه وشروطه الإضافية، يومها قالت كونداليسا رايس للرئيس نبيه بري عشية صدور القرار 1701، فليكن الفصل السادس ونصف في محاولة لتسويق نص للفصل السابع وتطبيق مرن له، فكان الجواب الحاسم: فلتستمرّ الحرب. واليوم كان آخر ما عرضته النصرة أننا نُخلي لبنان نهائياً فلماذا تعقّدون الأمر، في تبرير الطلبات الإضافية، فكان جواب اللواء عباس إبراهيم قاطعاً مانعاً، سأبقي خطوطي مفتوحة حتى منتصف الليل وبعده لن تجدوني على السمع، فإنْ قبلتم ما كان بلا إضافات أبلغوني، وإلا فليعُد الحسم للميدان، ولتذهب الأمور إلى حيث يجب أن تذهب. في الحالتين ربحت المقاومة وربح لبنان، لكن الأمر لم يكن مجرد شجاعة مفاوض، فوراء هذه الشجاعة كانت ترتيبات واستعدادات لمواصلة الحرب.

هل يمكن تخيّل حجم المسؤولية التي يتحمّلها صاحب القرار ومعه المفاوض في تقدير الموقف، وما سيترتّب على الاحتمال العكسي، أيّ أن يتصلّب المفاوض الآخر ومَن وراءه وتذهب الأمور إلى الحرب، بعدما تكون النفوس قد توطّنت على أنّ الحرب توشك على النهاية، وأنّ جولة من التضحيات تنتظر. والأكيد أنّ مثل هذا الاحتمال رغم التحليلات كلّها التي تقول بعكسه يبقى قائماً في حساب التفاوض. وهو عبء ضميري كبير ومسؤولية وطنية جسيمة، وجب أن نقول لمن تحمّلوه في المرتين بوركت عزائمكم وإرادتكم وإنجازاتكم. هذه هي المقاومة وهذه هي الدولة اللتان ترفع بهما رؤوسنا، وتكبر بهما قلوبنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى