مقالات مختارة

ما بعد انتهاء التنسيق الأمني-معين الطاهر

 

بدايةً، ينبغي الإشارة إلى عدم وجود أي رابط بين العنوان أعلاه وتصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس ومسؤولين فلسطينيين بشأن وقف جميع الاتصالات مع إسرائيل، بما فيها عمليات التنسيق الأمني. ذلك أنّ الكاتب يعتقد أنّ هذه التصريحات لا تعدو أن تكون ظرفية، تختفي آثارها بعد أيام من إطلاقها، من دون أن تترك أثرًا فعليًا في علاقات السلطة الفلسطينية مع العدو الصهيوني، وقد سبق وأن أُطلقت في عدة مناسبات؛ أكان ذلك في حرب غزة أو عند تصاعد الهبّات الشعبية أو تعثر الحل السياسي. ونتذكّر قرار المجلس المركزي، في مارس/ آذار 2015، بوقف التنسيق الأمني مع العدو، وتمّ تجاهله ونسيانه .

لكنّ هذه التصريحات تكشف وجهًا آخر، يتعلّق بإدراك قيادات السلطة أنّ حماية أمن العدو ممجوج ومرفوض على المستوى الشعبي، فتلجأ إليها لاحتواء الحالة الجماهيرية ومنع تصاعدها، مع إدراك واسع وراسخ لدى الأطراف كافة باستحالة تنفيذ ذلك، ما دامت السلطة الفلسطينية باقية بتركيبتها السياسية والأمنية الحالية، وضمن المعادلات والاتفاقات التي تحكمها.

الفرضية التي تعالجها هذه المقالة نظرية، تتعلق بما يمكن أن يحدث لو تبدلت أوضاع السلطة الفلسطينية أو انهارت، وهو احتمال قائم وممكن توقعه في أي لحظة، بوجود الرئيس محمود عباس، أو بعد رحيله، إذ لفظ حل الدولتين أنفاسه، وآفاق الحل السياسي تبدو مسدودة، على الرغم من محاولات شراء الوقت بالحديث عن صفقة القرن، أو فرض الحل عبر البوابة العربية. لكنّ ذلك لا يرتكز على دعائم قوية، ومن الممكن إطاحته؛ أكان ذلك عبر متغيّرات إقليمية تبدو آفاقها واعدة، أو عبر فعل فلسطيني قائم ومتدحرج، كما برهنت انتفاضة القدس أخيرا، حين قلبت الموازين والتوقعات كلها.

هل من المبكّر تناول مثل هذا الاحتمال والتساؤل عمّا يمكن عمله إذا ما تحقق؟ لا أظن ذلك،

ستختلف قيادة المرحلة المقبلة، وستكون من جيل الشباب المقاوم الذي لم تلوّثه اتفاقات أوسلو

فقبل أيام، أثارت تغريدة كتبتها على مواقع التواصل الاجتماعي، تتعلّق بالسؤال ذاته “هل يَجُبُّ وقف التنسيق الأمني ما قبله؟” ردودًا مختلفة، رحَّب بعضهم بذلك، فيما رفضه كثيرون ممن اعتبروا أنّ سياسة التنسيق الأمني ألحقت أضرارًا كبيرة بالنضال الفلسطيني، وأنّ من قادوا هذه السياسة يجب أن يُعاقَبوا، ولا يجوز التساهل معهم، وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك. ومع إقراري بأنّ التنسيق الأمني مع المحتل جريمة بحد ذاته، فقد أثارت هذه التعليقات لديّ مخاوف حقيقية بشأن ما يمكن أن يؤول إليه الوضع الفلسطيني مستقبلًا. ولأن اتجاهات الرأي العام والتيارات السياسية تتشكّل عبر الأيام، وليست وليدة لحظتها، فإنّ فتح هذا النقاش منذ الآن قد يكون مفيدًا، وهو معني أساسًا بمن كان أو سيكون له موقف حاسم من اتفاق أوسلو وسياسة التنسيق الأمني، ويدعو إلى إسقاط هذه المرحلة والخلاص منها، لكنّه يحاول أن يناقش، بمنطق وتعقل، السبل التي ينبغي الذهاب إليها لدى انهيار مرحلةٍ وبداية أخرى قوامها اعتبار كل فلسطين أرضًا محتلة، والعمل على تحريرها، وصولًا إلى تفكيك الكيان الصهيوني على أرضها.

لا بد من التذكير من أنّ اتفاق أوسلو، بنسخته الأولى، جاء تتويجًا لسلسلة من التنازلات التي بدأت منذ برنامج النقاط العشرة، وتطوّر من سلطة وطنية مقاتلة على أي بقعة أرض تتحرّر من الاحتلال إلى الاعتراف بقرار 242 والقبول بحل الدولتين، والاعتراف بدولة الكيان الصهيوني. كما أنّ أغلبية الفصائل الفلسطينية، بما فيها التي انتقدت اتفاق أوسلو أو اعترضت عليه، تعاملت مع جزء كبير من نتائجه، سواءً عبر المشاركة في مؤسسات السلطة، أو انتخابات المجلس التشريعي، أو القبول (ثمّة اشتراطات لدى بعضهم) بحل الدولتين، واعتباره المشروع الوطني الفلسطيني. وفي هذا السياق، عاد آلاف المناضلين إلى الأرض المحتلة، وانخرطوا مع آلاف المواطنين في العمل ضمن أجهزة السلطة الفلسطينية، الإدارية والأمنية، وحاز المشروع على قدر من الشرعية الفلسطينية، وإن تفاوتت درجاتها مع اختلاف المراحل التي مر بها.

انتهت مرحلة أوسلو الأولى باستشهاد ياسر عرفات الذي أدرك مبكرًا عُقم الاتفاق، وقصوره عن إنجاز المشروع الوطني الفلسطيني، فشجع القيام بالانتفاضة الثانية، لتبدأ بعده مرحلة أوسلو الثانية التي تميّزت باعتقاد قيادات في السلطة الفلسطينية أنّ السهر على حماية الأمن الصهيوني هو بوابة الوصول إلى تفاهماتٍ تتعلّق بمستقبل الحل السياسي، في تعبيرٍ عن جهل فادح بالمشروع الصهيوني وأغراضه ومخططاته على أرض فلسطين.

ستبدأ مرحلة جديدة طال الزمان أو قصر، أبواب الحل السياسي قد سُدّت، ولا آفاق لها، والاستيطان يبتلع الأرض الفلسطينية، وأداء السلطة ومشروعها السياسي والأمني يتهاويان، والعدو ليس في وارد إيجاد حلول معها، فمهمتها بالنسبة له أوشكت على الانتهاء، وهو بصدد تمرير مشاريع أخرى، تتيح له هضم ما ابتلعه، وتحويل الأرض المحتلة إلى كانتونات معزولة ضمن إطار حكم ذاتي محدود على السكان، من دون سيادةٍ على الأرض، وما يحتاجه في المرحلة المقبلة لن يتعدى بضعة عملاء مرتبطين وظيفيًا بما تدعى الإدارة المدنية في المناطق المحتلة.

قطعًا، سيتجاوز الشعب الفلسطيني ذلك، بل لعلّ رُبّ ضارة نافعة، إذ سيزيل هذا المشروع الذي يكشف بوضوح كل المخططات الصهيونية، الغشاوة التي علقت في أذهان كثيرين، وسيوحّد الشعب الفلسطيني كله ضمن بوتقة ثورية واحدة، تتصدّى لنظام الأبارتايد وللاحتلال ضمن مشروع مقاومة شاملة.

في ضوء ما تقدّم، سينتهي غطاء الادّعاء بوجود مشروع وطني، وسيعزل بعض العملاء

من يتوجب ملاحقتهم فهم الذين سينضمون إلى المشروع الصهيوني، ويعملون في خدمته

أنفسهم، حين يضعونها في خدمة العدو الصهيوني مباشرة. وما عداهم، فإنّ منع الانقسام والاقتتال الداخلي، والحفاظ على الوحدة، والتعلم من دروس الانقسامات التي أوجدها العدو في صفوف الثورات الفلسطينية، تعدّ من أهم عوامل مواجهة مخططاته الهادفة إلى إيجاد مخلب قط بين صفوفنا.

بعد اجتياح 1982، نجح العدو الصهيوني في توسيع قاعدة جيش لبنان الجنوبي، وجنّد ضمن صفوفه مئاتٍ من أهلنا في الجنوب اللبناني، وعند انتصار المقاومة في سنة 2000، وبدء انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، اعتقد الصهاينة بإمكان الحفاظ على شريط حدودي يتولاه هذا الجيش العميل، إلّا أنّ حكمة المقاومة، وعفوها العام عن كل من التحق بجيش أنطوان لحد، سرّع في انهياره، وفرّ عدد محدود من قياداته إلى داخل الأرض المحتلة، وانهار المشروع الصهيوني الذي لملم بسرعة ذيول هزيمته وفلول قواته في انسحابٍ غير منظّم، بعد أن فاجأه الانهيار المفاجئ في صفوف عملائه.

ثمة درس مهم من قصة استشهاد الشهيد باسل الأعرج، المثقف والفدائي، ففي حوار معه قبل استشهاده بأعوام، تحدّثنا عن اتجاه برز بين صفوف جيل ثوري شاب، يرى في المتعاونين مع العدو خطرًا لا يقلّ أهميةً عن العدو ذاته، ويقترح أن تنقسم خلايا الحركات الثورية إلى قسمين؛ يهتم أحدها بقتال العدو، فيما يُعنى الجزء الآخر بمقارعة العملاء الذين توسعت دائرتهم، لتشمل المستفيدين من السلطة أمنيًا واقتصاديًا. دار نقاش طويل صاخب، وتذكّرنا ما ألحقته فصائل السلام وقوى الثورة المضادة والانقسام من خسائر كبرى في صفوف الشعب الفلسطيني، وخلصنا إلى أنّ ضرب العدو الصهيوني وحده سيُضعف كل من يدور في محيطه، في حين أنّ المعارك الجانبية تُضعف جبهتنا وتقوي عدونا. لاحقًا قدّم لنا باسل هذ الدرس بدمائه، وغدا بالطريق الذي اختاره أيقونة خالدة في سماء فلسطين.

ستختلف قيادة المرحلة المقبلة حتمًا، وستكون من جيل الشباب المقاوم الذي لم تلوثه اتفاقات أوسلو واستحقاقاتها، والمستمر في تفجير الهبات الشعبية والانتفاضات، وابتكار أشكال جديدة كل يوم للمقاومة. أمّا من يتوجب ملاحقتهم فهم الذين سينضمون إلى المشروع الصهيوني، ويعملون في خدمته، ولعل في تجربة إعلان التوبة والولاء للثورة في الانتفاضة الأولى درسا بليغا للمستقبل، ومن لم يعتبر من الماضي ويتعلم منه لا مستقبل له.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى