خمسة تحوّلات ترسم ملامح مرحلة مغايرة في صراعات المنطقة: د. عصام نعمان
كانت منطقة غرب آسيا مسرح صراعات دولية وسياسية واقتصادية وعسكرية على مدى القرن العشرين، تخللتها حربان عالميتان، الأولى 1914 ـ 1918 والثانية 1939 ـ 1945 وبضعة حروب إقليمية أهمّها حروب «إسرائيل» المتعدّدة على الشعب الفلسطيني وعلى مصر وسورية ولبنان، والحرب العراقية الإيرانية، والحرب الأميركية على العراق، وحرب تركيا المتواصلة على الكرد في داخلها وفي العراق وسورية.
مع اندلاع «ثورات» الربيع العربي وصعود حركات «الإسلام الجهادي»، ولا سيما تنظيم «القاعدة» بفرعيه الأكثر نشاطاً، «الدولة الإسلامية – داعش» و«جبهة النصرة» بأسمائها المتعدّدة والمتبدّلة، دخلت منطقة غرب آسيا في مرحلة جديدة متقدّمة من الصراعات الأكثر تعقيداً، واتساعاً، والأفعل جاذبية لمشاركة دول كبرى في معمعتها كأميركا وروسيا.
غرب آسيا عبارة عن برزخ جغرافي يمتدّ من الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط إلى الشواطئ الجنوبية لبحر قزوين، ومن الشواطئ التركية على البحر الأسود إلى الشواطئ اليمنية والعُمانية على شواطئ بحر العرب. يضمّ هذا البرزخ أكثر من 15 دولة و3 قوميات كبرى العرب والترك والفرس ومجموعة من القوميات الأصغر حجماً، أكبرها الكرد والأذريون. كما يحتضن أربعة مضائق استراتيجية: البوسفور والدردنيل تركيا وقناة السويس مصر وباب المندب اليمن وهرمز إيران .
تحوّلات خمسة بزغت تباعاً في دول هذا البرزخ نتيجةَ صراعاتٍ مزمنة تدور فيها وتدخلات خارجية مستجدّة انعكست بقوة على صراعاتها.
التحوّل الأول: عودةُ الولايات المتحدة الى التدخل مباشرةً أو مداورةً في الصراعات المحتدمة، بلغت أوجَها في العام 2014 مع صعود تنظيمات «الإسلام الجهادي» وتمكّن أحدها، «داعش»، من السيطرة على مدينة الموصل بالإضافة الى محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار، أيّ ما يزيد عن ثلث مساحة العراق، وإعلانه مدينة الرقة عاصمةً لـِ «دولة الخلافة الإسلامية» في العراق والشام، بالإضافة إلى سيطرته مع «النصرة» وتنظيمات أخرى على مدينة حلب ومساحات واسعة من محافظات شمال سورية وشرقها ووسطها وجنوبها. إزاء ذلك، أقامت الولايات المتحدة، بالتعاون مع نحو خمسين دولة، «التحالف الدولي ضدّ الإرهاب» الذي قام، ظاهراً، بقصف جوي محدود لبعض مواقع «داعش»، لكنه تقصّد أيضاً تزويده، عبر تركيا، بالسلاح والعتاد، كما موّل ودرّب وسلّح عدداً من تنظيمات المعارضة السورية المسلّحة ونسّق قتالها ضدّ الجيش السوري.
التنظيمات الإرهابية وحلفاؤها فشلوا في تحقيق أغراضهم بينما نجح الجيش السوري وحلفاؤه في طردها من حلب وبلدات وقرى سورية أخرى ما أدّى إلى حصول تطوّرين لافتين: الأول، قيام واشنطن، أثناء ولاية الرئيس باراك أوباما، بوقف برنامج تمويل وتدريب وتسليح تنظيمات المعارضة السورية، ثم قيام إدارة الرئيس دونالد ترامب أخيراً بالتخلّي عنها ومطالبتها بحصر مواجهتها بـِ «داعش» وعدم مقاتلة الجيش السوري. الثاني، توافق موسكو وواشنطن على إقامة «مناطق خفض التصعيد» في شمال سورية ووسطها وجنوبها الأمر الذي انعكس سلباً على التنظيمات الإرهابية والمعارضة وعزّز مساعي روسيا لإيجاد تسوية سياسية للحرب في سورية وعليها من خلال مفاوضات أستانة وجنيف.
باختصار، دور أميركا العسكري في سورية تقلّص كثيراً، ولن يمضي وقت طويل قبل أن تقوم بسحب قواتها البرية من شمال سورية الحسكة والرقة وشرقها منطقة التنف .
التحوّل الثاني: عودةُ روسيا بقوة وفعالية الى سورية، عسكرياً ودبلوماسياً، وإلى تركيا سياسياً ودبلوماسياً. الأمر الذي أدّى الى إضعاف دور أميركا في كِلتا الدولتين. فقد عزّزت موسكو قواتها الجوية والبحرية والبرية في سورية، وأسهم طيرانها الحربي بفعالية في دعم الجيش السوري ضدّ التنظيمات الإرهابية، ونجحت تالياً في إقناع واشنطن وأنقرة بدعم مبادرتها في إقامة مناطق «خفض التصعيد».
باختصار، الدور والنفوذ الروسيان صاعدان في سورية بدليل موافقة دمشق على تمديد أجل معاهدتها مع موسكو بشأن قاعدة طرطوس البحرية تصل الى نحو نصف قرن.
التحوّل الثالث: انهزامُ «داعش» في الموصل وفي محافظات العراق الغربية، ما يؤشر الى فشل شامل في سائر أنحاء العراق وانهزام «النصرة» في حلب وشمال سورية وأخيراً في الجرود على حدود لبنان الشرقية واتجاه الجيش السوري الى دحر «داعش» في محافظتي دير الزور والرقة وتوسيع رقعة انتشاره وسيطرته في سائر المناطق السورية. ولا شكّ في أنّ نجاحه المرتقب في السيطرة على حدود سورية مع العراق والأردن يمكّن دمشق من استعادة سيادتها على أراضيها والاستفادة لوجستياً من جسرٍ برّي يمتدّ من إيران الى لبنان عبر العراق، كما يعزّز دورها في محور دول المقاومة، ما يتيح لتنظيمات المقاومة توسيع قواعدها ونفوذها، وبالتالي لعب دور أفعل داخل الأنظمة السياسية.
التحوّل الرابع: انكسارُ هجمة «إسرائيل» الضارية على المسجد الأقصى لبسط سيادتها عليه. ذلك أنّ ردّة فعل الجماهير المقدسية خاصةً، والفلسطينية عامةً، أكرهتها على إزالة كلّ البوابات الإلكترونية والكاميرات الرقابية والعوائق الأمنية حول مداخل المسجد، ما ضخّ معنويات وحماسة هائلة في جماهير الشعب الفلسطيني، وحمل منظمة التحرير وسلطة محمود عباس على مراعاة القوى الداعية لاعتماد نهج المقاومة ووقف التواصل مع «إسرائيل» بقطع التنسيق الأمني معها، وأنتج مناخاً نضالياً حاراً يؤسّس لمرحلة جديدة من الصراع ضدّ الكيان الصهيوني وحلفائه، عناوينُه الرئيسة: تسريع مساعي استعادة الوحدة الوطنية، وتعزيز أنشطة المقاومة الشعبية، وإحياء مركزية القضية الفلسطينية عربياً وإقليمياً ودولياً، فضلاً عن لجم انفتاح بعض دول الخليج على التعاون الضمني أو العلني مع «إسرائيل» ضدّ إيران.
التحوّل الخامس: صعودُ إيران سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً، ما مكّنها من الاضطلاع بدور فاعل في مجهودات محور المقاومة ضدّ الإرهاب ومخططات أميركا و«إسرائيل» العدوانية. ولعلّ التطوّر الأبرز في مسار صعود إيران هو نجاحها، بعد التزام أميركا والدول الخمس الكبرى بالاتفاق النووي، في إنتاج صواريخ بالستية للمدى المتوسط والمدى الطويل قادرة على حمل أقمار اصطناعية إلى المدار الفضائي على ارتفاع لا يقلّ عن 500 كيلومتر. وكان الجيش اليمني الموالي لحكومة صنعاء أعلن عن قيامه بإطلاق صاروخ بالستي على قاعدة الملك فهد العسكرية في الطائف، جنوب مكة. ومن الواضح أنّ هذا الصاروخ هو من صنع إيران، وانّ قدرة طهران على تزويد حلفائها في اليمن وسورية ولبنان بصواريخ بالستية، سيزيد من فعالية دورها الإقليمي في وجه الولايات المتحدة، كما ضدّ «إسرائيل».
يتحصّل من هذه التحوّلات البازغة ثلاثة نتائج ترسم ملامح أبعادها ومفاعيلها المحتملة:
أوّلها: ميلٌ مطّردٌ في موازين القوى على مستوى دول المنطقة الى كفّة دول محور المقاومة، وتعزيز العلاقات والتحالفات، من بينها تنظيمات المقاومة في لبنان وسورية وفلسطين والعراق وتعاونها في مواجهة خصومها.
ثانيها: ضمور متدرّج في هامش الحركة والمناورة أمام الولايات المتحدة و«إسرائيل» وحلفائهما، وبالتالي تقلّص دورهما وفعاليتهما في مواجهة أعدائهما.
ثالثها: ازديادُ فعالية قوى المقاومة داخل لبنان وسورية وفلسطين والعراق وانعكاسها على الأوضاع الداخلية، بما يحدّ من نفوذ الشبكات الحاكمة فيها، ويعزز دور القوى الوطنية والتقدّمية الحية الداعية للتغيير والإصلاح والدولة المدنية الديمقراطية.
(البناء)