كرة النار تتدحرج مجدداً في إدلب: «عزل النصرة» في طور التنفيذ؟: صهيب عنجريني
لا يمكن فصل تطورات إدلب الراهنة وعودة النار إلى الاشتعال بين أكبر «فصيلين» فيها عن قضية «عزل جبهة النصرة» التي تسيّدت واجهة المشهد السوري طويلاً، قبل أن تختفي من التداول بشكل مفاجئ. ويبدو مرجّحاً أن الفصل الجديد من الحرب بين «الأحرار» و«النصرة» هو بمثابة خطوة فعلية في مسار «العزل »
شهور طويلة مرّت منذ آخر مرّة طُرح فيها «عزل جبهة النصرة» بوصفه منعطفاً لا بدّ منه في المشهد السوري. وفي مقابل حضور دائم لقضيّة «العزل» على ألسن مسؤولين ومتحدثين دوليين (بعضهم رفيع المستوى) وعلى طاولات التفاوض الدوليّة وخلف الكواليس في النصف الثاني من العام الماضي، اختفت تدريجاً من التداول منذ مطلع العام الحالي وصولاً إلى انعدام أي ذكر لها. وأسهمت التطوّرات المستمرّة والمتسارعة في المشهد السوري العام في تحويل القضيّة إلى ملف منسي (ظاهريّاً)، من دون أن يعني ذلك أنّ الملف طُوي بطبيعة الحال. ومن نافلة القول إنّ كلّ اللاعبين الدوليين والإقليميين يعون تماماً أن أي تفاهمٍ يفضي إلى وضع القطار السوري على سكّة حل فعلي (وأيّاً يكن شكل هذا الحل) لن يكون ممكناً من دون التوافق على «قفلةٍ» ما لموضوعة «التنظيمات الجهاديّة»، لا سيّما «داعش» و«النصرة» وأضرابهما من المجموعات «القاعديّة» الصغيرة.
وخلافاً لحال علاقة «داعش» ببقيّة المجموعات المسلّحة، برز التداخل المعقّد بين «النصرة» وسائر المجموعات المسلّحة (إن في ما يخص مناطق السيطرة، أو طبيعة العلاقات التي وصلت سابقاً إلى مرحلة التلاحم العضوي) بوصفه عقبةً أساسيّة في طريق «العزل». وفي سبيل فهم التطورات المتسارعة التي تشهدها محافظة إدلب راهناً، لا بدّ من توسيع العدسة قليلاً للتذكير بمسار «أستانا» الذي تحوّل مساراً لـ«هندسة» الحرب السوريّة وتقسيم مناطقها إلى مناطق ذات توتر عالٍ وأخرى لـ«تخفيفه». ويمكن القول إنّ «كواليس أستانا» قد تحوّلت مسرحاً حقيقيّاً لفكفكة قطع «البازل» السوري تمهيداً لإعادة تركيبها.
وفي شباط الماضي أشارت «الأخبار» إلى واقع جديد يتم تكريسه في محافظة إدلب تمهيداً لانعطافة ما («الأخبار»، العدد 3096) . وكانت الأحداث التي شهدتها إدلب يومَذاك قد مهّدت لفرز المجموعات واصطفافاتها بشكل منظّم، وتقسيمها إلى معسكرين أساسيين: أوّلهما «جهادي» غير قابل للتدجين تتربّع على رأسه «النصرة» ومن انضوى تحت رايتها الجديدة في «هيئة تحرير الشام»، وثانيهما «براغماتي» يصلح ليكون جزءاً من «توليفة» مستقبليّة وتتربّع على رأسه «حركة أحرار الشام». وفي مقابل استقطاب الأولى لمعظم العناصر والمجموعات من معسكر «الهوى القاعدي»، كسبت الثانية ما يمكن وصفه بـ«تنقيتها» من العنصر «الجهادي».
وفي خلال الأيام الماضية بدا أنّ الظروف باتت مواتية لقطع خطوات جديدة في مسار «عزل القاعديين» وإعادة توزيع مناطق السيطرة في محافظة إدلب بشكل يمهّد للفصل الجغرافي. ويبدو جليّاً أن التدرّج في تنفيذ خطوات «العزل» ينبع من عوامل عدّة، تأتي على رأسها إتاحة الفرصة أمام اللاعبين الدوليين والإقليميين لاختبارات «حسن نوايا» متبادلة لكل تفاهم من التفاهمات يتم إبرامه. ويمثّل اتفاق «مناطق خفض التوتر» ومن بعده «هدنة الجنوب» أبرز محطّتي اختبار لـ«متانة» اتفاقات المشهد السوري في خلال العام الجاري. وفيما كان اللاعب التركي حريصاً في معظم المراحل السابقة على عدم خسارة ورقة «النصرة» بوصفها طرفاً عسكريّاً فاعلاً، فقد أتاحت المستجدّات للجيش التركي أن يدخل على الخط عند الضرورة كما منحته مساحات سيطرة واسعة احتلّها تحت ستار «درع الفرات». وعمل الأتراك بالتزامن على إعادة ترتيب معسكر المجموعات المحسوبة عليهم، وتهيئتها عسكريّاً، لا عبر إخضاعها لتدريبات مستمرّة فحسب، بل وصولاً إلى تنظيمها في «غرفة» عسكريّة تقاتل تحت إمرة ضباط أتراك بشكل معلن وبـ«غطاء» من التفاهمات مع موسكو. وربّما مهّد ذلك لتشجيع أنقرة على دق الإسفين الأخير بين ذراعين لطالما تحكّمت فيهما (بنسب متفاوتة) خلافاً لما كان المشهد عليه في مطلع العام الحالي («الأخبار»، العدد 3085) . واستناداً إلى هذه التفاصيل لا يمكن عدّ الأنباء عن تحركات تركيّة على الحدود تمهيداً لنقل مقاتلين من «درع الفرات» إلى إدلب بغية مساندة «الأحرار» غريبة أو مستبعدة الصحّة.
وفي الوقت نفسه تنبغي الإشارة إلى أن أنقرة قد عملت في خلال السنتين الأخيرتين على تجهيز تنظيم «جهادي» صالح ليسدّ مكان «النصرة» عند الضرورة، وهو «الحزب الإسلامي التركستاني» الذي يبدو حتى الآن أحد المستفيدين من تطورات إدلب («الأخبار»، العدد 3226) . ولا ينبغي أن تؤدي وتيرة الأحداث المتسارعةُ في إدلب إلى صرف الانتباه عن تفصيلين جوهريين يُستبعد أن يكون للمصادفة نصيب في تزامنهما مع تدحرج كرة النار مجدداً في إدلب: الإعلان قبل أيام عن إغلاق وشيك لمعبر باب الهوى الحدودي (نصّ الإعلان على إغلاقه يومي الخميس والجمعة)، وإصرار «حركة أحرار الشام» وبعض المجموعات المحسوبة على خطها والناشطين المرتبطين بها على تدشين حملة لرفع «راية الثورة» في كثير من مناطق إدلب بدلاً من «راية الجهاد». ومع الأخذ في عين الاعتبار أن بذور الخلاف بين «الأحرار» و«النصرة» تعود إلى أعوام خلت، وأنّ كلّاً من الطرفين يتربّص بالآخر، لم يكن مفاجئاً أن تفلح قضيّة «الرايات» في إذكاء النار بين الطرفين. ورغم أن «الأحرار» و«النصرة» سبق لهما أن خاضا معارك طاحنة في ما بينهما غير مرّة، وأن «التهدئة» كانت دائماً ما تنجح في حسم الموقف آخر الأمر، غير أنّ الطرفين لم يخرجا من «فتنة» إلا وأسباب «الفتنة» التالية جاهزة في انتظار الشرارة المناسبة. وأفلح الأتراك عبر السنوات الماضية في القبض على زمام العلاقة بين الطرفين والتحكم في مراحل صفوها وتعكيرها، والقدرة على دق الساعة الصفر لأي اقتتال بينهما («الأخبار»، العدد 3532) . وإذا كان الجزم بمآلات الحرب الطاحنة التي تشهدها معظم مناطق إدلب بين الطرفين راهناً ضرباً من المغامرة، فالمؤكّد أنها ستكرّس الافتراق وتدق أسافين جديدة بينهما. ولم يخرج سيناريو جولة الحرب الحاليّة بين الطرفين في إطارها العام عن سيناريوات لجولات مماثلة سابقة، سواء لجهة تبادل الاتهامات أو اقتحام المقار وتبادل الاعتداءات، باستثناء اتساع الرقعة هذه المرّة، علاوة على أنباء عن إصابة أبو محمد الجولاني زعيم «النصرة» والقائد الفعلي لـ«هيئة تحرير الشام». ووصلت المعارك إلى مشارف معبر باب الهوى المقابل لمعبر «جلوة غوزو» التركي، فيما تبادل الطرفان السيطرة على نقاط ومناطق عدّة. ويبدو من بين الاحتمالات المرجّح حدوثها أن تفضي عمليات تبادل السيطرة إلى فصلٍ جغرافي شبه واضح في نهاية الأمر. ولا يعني هذا أن جولة المعارك مرشحة لنهاية قريبة، لا سيّما أنّ تخلي «جبهة النصرة» عن بعض المناطق سيكون بمثابة انتحار لها. ومن بين تلك المناطق تبرز مناطق جبل الزاوية بوصفها معاقل حرصت «النصرة» منذ سنوات على تجهيزها لحرب طويلة الأمد. وفي الوقت نفسه تحظى المناطق الحدودية بأهمية قصوى لأنها تشكل متنفسّاً أساسيّاً.
شهدت غالبية المدن والبلدات الرئيسية في محافظة إدلب اشتباكات بين الطرفين، وامتدت أمس إلى عدة مناطق في ريف حلب الغربي. وتركزت غالبية المعارك في بلدات سلقين وسرمدا والدانا وسراقب وأرمناز وحارم في ريف إدلب، بينما شهدت بلدة الأتارب في ريف حلب أبرز المناوشات بين الطرفين. ونقلت مواقع معارضة أن طرفي القتال نشرا حواجز على غالبية طرق الريف الإدلبي بين البلدات الرئيسية، ما أدى إلى إقفال مدينة إدلب إقفالاً شبه تام. وتركزت الاشتباكات الأعنف في بلدتي سرمدا والدانا، ومنهما باتجاه معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا. وبدا لافتاً أن أنقرة كانت قد قررت إغلاق المعبر مؤقتاً «بسبب أعمال صيانة للطريق والرصيف» بالتوازي مع اندلاع الاشتباكات. وأعطى قائد «الهيئة» أبو جابر الشيخ، الأمان لأيٍّ من عناصر «أحرار الشام»، ممن يحيّدون أنفسهم عن القتال الدائر، وفق ما نقلت «وكالة إباء» المحسوبة على «الهيئة». ومن جهته، رأى رئيس مجلس شورى «أحرار الشام» حسن صوفان، أن المعركة ضد «الهيئة» الآن «وجودية»، مشيراً إلى أن على عناصر «أحرار الشام» منع «تكرار تجارب مأساوية حصلت في الجزائر والعراق، وتحصل اليوم في الموصل والرقة». وأضاف أن «جماعة الجولاني (الهيئة) قررت الهجوم على معبر باب الهوى، الرئة الوحيدة للشمال المحرر… ولكم أن تتخيّلوا أثر ذلك التصرف الأرعن على حياة الناس وضرورات عيشهم، مع ما قد يستجلبه من تدخل خارجي ومؤامرات دولية».
(الأخبار)