بقلم غالب قنديل

التكيف الأميركي الصعب

غالب قنديل

استهلكت الأشهر المنقضية من ولاية الرئيس دونالد ترامب جهودا جبارة بذلتها المؤسسة الحاكمة الأميركية ومجموعات الضغط الكبرى الصانعة للقرار الأميركي في سعيها لترويض الرئيس القادم من خارج النادي التقليدي لمنعه من تدشين مرحلة الاعتراف بتقهقر الهيمنة الأحادية الأميركية في العالم ومباشرة تكريس تقاليد المساكنة والتكيف مع التعددية القطبية انطلاقا من الحواروالتعاون مع كل من روسيا والصين. 

اولا حوصر دونالد ترامب إعلاميا وسياسيا وقضائيا بتحقيقات وفضائح وحملات تحرك للجمها عبر الارتماء في حضن اللوبي الصهيوني ومجموعات المحافظين الجدد وتجاوب البيت الأبيض مع جميع الطلبات المتعلقة بالمزيد من الدعم السياسي والعسكري للكيان الصهويني وبجاهزية الاشتباك مع روسيا والصين ومتابعة حروب الوكالة التي تقودها الولايات المتحدة.

شهدت الأشهر المنقضية منذ دخول ترامب إلى البيت الأبيض أعلى درجات التصعيد الأميركي وجرت عدة احتكاكات على حافة الهاوية سواء عبر الحشود الأطلسية غير المسبوقة في الجوار الأوروبي لروسيا ام في مسار التصعيد ضد كوريا الديمقراطية ام في الحرب على سورية في حين تصاعدت العقوبات الأميركية والأوروبية التي تستهدف روسيا والصين وواصلت واشنطن التحرك ضد إيران بتجاوب ساخن مع الرغبات والتمنيات الصهيونية .

ثانيا اضطرت المؤسسة الحاكمة الأميركية للعمل بمبدأ تحاشي الاشتباك بعد اكثر من اختبار قوة عندما تبين لها ان خطوطها الحمر تتهاوى بوضوح وانها مضطرة لقبول القواعد والتوازنات الجديدة المتحولة وعدم المغامرة خلف الأوهام الخائبة المتعلقة بفرص الانقضاض على الخصوم وقلب المعادلات كليا لعكس اتجاه            الأحداث ولوقف انهيار وتصدع الجبهات فالسنوات المنصرمة منذ احتلال العراق استهلكت طاقة ادوات الحروب الأميركية المباشرة وبالواسطة.

بينت تجربة هذه الأشهر نفسها وجود تناقضات كثيرة في قلب المعسكر الغربي وظهور اختلافات تتعلق بمستقبل العولمة واتفاقات التجارة الحرة رغم الخضوع الأوروبي للمشيئة الأميركية في العقوبات ضد روسيا وفرملة أي تطور او توسع محتمل في العلاقات المتشعبة مع روسيا وكل من الصين وإيران خصوصا.

ثالثا الأدهى كان بروز  خطر تفكك المنظومة التابعة للهيمنة الأميركية في الشرق العربي عندما اكره الحزم السوري الروسي الإيراني القيادة التركية على مراجعة حساباتها بينما تفجرت ازمة إقليمية خطيرة على هامش احتفال الرياض بزيارة ترامب المتوجة بتثبيت ولي العهد السعودي الجديد وبصفقات سخية للشركات الأميركية أراحت الرئيس وإدارته من حمى الضغوط الداخلية.

كانت منظومة الهيمنة تتحضر سياسيا عبر قمة الرياض وبقيادة ترامب لتحريك موجة قوية من التصعيد والعداء ضد إيران فتحولت المناسبة إلى انفجار تشظت بنتيجته المنظومة التابعة إلى محورين متصارعين : محور قطري تركي اخواني ومحور سعودي إماراتي مصري وهو انقسام حمل انعكاسات عديدة ومعقدة على واقع ادوات الحروب التي تقودها واشنطن بواسطة قوى الإرهاب التكفيري في كل من سورية واليمن والعراق.

رابعا  هذه التداعيات الخطرة في الشرق ومعها التحدي الكوري المتزايد أرغمت واشنطن على السير في خيار التبريد والتواصل مع موسكو وبكين وهي حصيلة فرضتها المعادلات وتوازن القوى الذي يدرك معه قادة الجيوش الأميركية ومخططو البنتاغون تكاليف المغامرة وهم يجيدون قراءة رسائل الخصوم المتزايدة في هذا الاتجاه ولذلك فالقمة الروسية الأميركية في هامبورغ جاءت نتيجة لحزم محور المقاومة في سورية ولصلابة القيادتين السورية والكورية ونتيجة الحزم والدهاء في حركة متكاملة لإدارة الصراع جمعت قيادات كل من روسيا والصين وإيران مع الشريكين السوري والكوري .

بعض الأوهام الأميركية حول فرص إذكاء التناقضات الثانوية بين حلفاء المحور المقابل رددتها توصيات الخبراء والباحثين في مراكز اقتراح السياسات والخطط منذ انتخاب ترامب لكن الوقائع التي تراكمت عن الشراكات الاقتصادية والسياسية والعسكرية المحققة في معظم جبهات الصراع العالمي تجزم بعقم هذا النوع من الرهانات فقد وجدت الولايات المتحدة نفسها في مجابهة فريق دولي منافس ومتشعب يجيد التناغم والتكامل واحترام الخصوصيات والتمايزات بما يقطع الطريق على أي استغلال اميركي خبيث.

خامسا  لا مبرر للمبالغة في تصوير نتائج القمة الروسية الأميركية فهي محصورة في حدود عودة التواصل والنقاش حول قضايا الاختلاف تحت سقف منع تحول الحرب الباردة الجارية إلى صدام عسكري مباشر وخطير يسعى الجميع إلى تحاشيه لأنهم يعلمون ما هي الكلفة التي ستكون بانتظارهم.

قد نسمع كثيرا من الروايات عن صفقات وتفاهمات وربما يظهر العديد من التكهنات الخيالية والافتراضية لكن يبدو من الوقائع وبحساب التوازنات انه من المبكر اعتماد أي تقدير عجول عن اتفاقات واضحة تم تثبيتها بشأن سورية او غيرها من ميادين الصراع الكوني المستمر والمتعرج خصوصا وان القيادة الروسية باتت متحفظة وحذرة بعدما اختبرت مع إدارة الرئيس السابق باراك اوباما تراجعات مشينة وغير لائقة بدولة عظمى عن تفاهمات وقعت رسميا وأعلنت على العالم ثم عطلتها الصراعات الداخلية الأميركية التي ما تزال مستمرة في صفوف تكتلات المؤسسة الحاكمة ومجموعات الضغط المتعددة بسبب صعوبة الاعتراف الأميركي بسقوط الهيمنة الإمبراطورية الأحادية وبإلزامية التكيف مع مرحلة جديدة من التعدد القطبي على الصعيد الدولي باتت تفرض نفسها بقوة قاهرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى