جدول الحرب الباردة في هامبورغ
غالب قنديل
يجمع الخبراء الاقتصاديون على ان الصراع الفعلي غير الظاهر داخل قمة العشرين التي تنعقد في هامبورغ سيكون بين الصين وشريكها الروسي من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى وحيث تمثل القارة الأوروبية أحد أهم ميادين المنافسة المحتدمة والتي تشعل ساحات وحروبا كثيرة في آسيا وأفريقيا والأميركيتين بفعل التحولات الاقتصادية والاستراتيجية التي تغير الخرائط وموازين القوى في العالم.
لكن الحدث الأبرز الذي تتركز عليه ومن حوله الأضواء هو القمة المرتقبة بين الرئيسين الروسي والأميركي حيث اجازت المؤسسة الحاكمة الأميركية للرئيس ترمب عقد أول لقاء على مستوى القمة بعدما قيدته بحملة ضغط واسعة لمنع ترجمة أفكار حملته الانتخابية التي تضمنت تسليما بصعود القوة الروسية وبحتمية التفاهم والعمل المشترك معها في جميع ملفات النزاع بل وبعدما أرغمت ترامب وفريقه على التراجع عن هذا الخطاب أكرهته المؤسسة ومجموعات الضغط داخلها على تصعيد العقوبات الأميركية والأوروبية ضد روسيا واتخاذ المزيد من الخطوات العسكرية الأميركية والأطلسية العدائية في الجوار الأوروبي القريب من الحدود الروسية الذي يضم دول أوربا الشرقية والوسطى التي كانت ضمن الكتلة السوفيتية بين الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتي وحيث خرقت واشنطن تعهداتها بعدم السعي إلى ضمها لنفوذها وتجاهر روسيا بالعمل لاسترجاعها وهي تتحرك إلى ذلك انطلاقا من التشابكات الثقافية والدينية ( الأرثوذكسية ) والعرقية ( السلافية ) وبالقوة الاقتصادية الفاعلة التي تحوزها روسيا كمصدر رئيسي لطاقة إلى هذا الجوار وبالشراكة مع الصين التي تعتبر الشريك التجاري الأول في الغرب عموما.
منذ أشهر وفي مناخ من التوتر المتصاعد خصوصا في سورية كانت عودة الاتصالات الروسية الأميركية عبر خطي هنري كيسنجر وريكس تليرسون اللذين زارا موسكو والتقيا بالرئيس بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف بتكليف من البيت الأبيض والأرجح ان الغاية كانت تبريدا مرحليا للأجواء ضمن مفهوم تحاشي الاحتكاك الذي اجمعت مراكز الدراسات الأميركية على التوصية باعتماده بما في ذلك معهد واشنطن الصهيوني الأشد تطرفا وحيث يؤكد الخبراء على أولوية إبعاد خطر انفجار كبير ومكلف تدرك المؤسسة الحاكمة الأميركية مخاطره الكارثية وتفاعلاته المتشعبة.
خلافا لأوهام الكثيرين لسنا امام احتمال تسوية او صفقة أميركية روسية فأقصى ما يمكن التوصل إليه في القمة هو تحديد جدول مشترك بالقضايا الخلافية وتثبيت قواعد المساكنة وترك القنوات التفاوضية مفتوحة دون استسهال التنبؤ بتفاهمات كبرى تتخطى حدود التكرار الممل للمباديء العامة التي سبق وأعلنت بعد قمم مماثلة في عهد باراك أوباما الذي حكمته هيمنة حزب الحرب على الخارجية الأميركية في عهدي هيلاري كلينتون وجون كيري.
القاعدة التي ينبغي إدراكها والتعامل من خلالها هي أن الولايات المتحدة لن تسلم بأي من الوقائع الجديدة إلا مجبرة بالإكراه وهذا ما بينته تجربة الاتفاق النووي وهي اليوم مجبرة على تكريس الاعتراف بالقوة الروسية الصاعدة وبحقيقة الفشل في سورية لكنها لن تستسلم ولن تتنازل دفعة واحدة بعدما فشلت خلال الأشهر الماضية في اختبار فرضيات استمالة الصين لمحاصرة روسيا او تحييد روسيا لمحاصرة إيران والصين معا كما سقطت مؤخرا فرضية استفراد سورية بتحييد وشل روسيا والصين وإيران فديناميات محور مناهضي الهيمنة الأميركية الأحادية في العالم تؤكد تبلور توازنات جديدة ونشوء وعي عند هذه الكتلة الشرقية لعناصر القوة والقدرة الاقتصادية والعسكرية التي تعمل على تعزيزها بالتكافل والتضامن مع احتفاظها بعناصر التمايز والخصوصية وبترسيخ تناغمها الاستراتيجي الذي لا يسمح لواشنطن بإحداث ما تراهن عليه من فجوات تسهل لها اختراق التموضع الحالي لقوى الحرب الباردة الجديدة التي تتسم بخصائص نوعية تستحق الدراسة لاستنباط قواعد الصراع الجديد في العالم المعاصر.
جدول هامبورغ لملفات الحرب الباردة الجديدة سيكون على طاولة الرئيسين الروسي والأميركي والوقائع تشير إلى ان التسليم الأميركي بالمساكنة مع القوة لروسية الصاعدة بتحالفاتها ومرتكزات حضورها هو النتيجة الأبرز التي ستفتح أبواب التفاوض على قواعد منع التصادم المباشر وعلى شروط تبريد الجبهات الساخنة لتلافي مخاطر الاشتباك الواسع وهذا ما يوجب خفض سقف التوقعات فإبقاء الاتصال مع موسكو مفتوحا وإعلان النوايا حول مرتكزات عمومية لتفاهمات الأدنى في جبهات الاشتباك وخصوصا في سورية واوكرانيا هو ما اوصت به أبرز مراكز التخطيط الأميركية خلال الأسبوع الماضي.