مرحبا “يا وطن” بقلم العميد منير عقيقي
يكاد يندُر ان يجتمع اللبنانيون على شيء بالقدر الذي يفعلونه في مخاطبة عسكري في الجيش او في احد الاسلاك الأمنية، إذ ينادونه “يا وطن”، في دلالة قاطعة على تمسكهم بشرعية هذه المؤسسات واحترامهم هيبتها، وهي التي نمت معهم منذ نعومة اظافرهم، موجودة في وجدانهم، تختصر شعار السيادة والاستقلال الذي يردده كل واحد منا. لكن ما يشوّه هذا الواقع هو ان ترى الذين خدموا وطنهم وشعبه او أُسَرِ الذين دفعوا حياتهم في سبيله، واعني المتقاعدين العسكريين وعائلات الشهداء والجرحى والمعوّقين، ان يضطروا الى النزول الى الشارع للمطالبة بحقوقهم، وهم الذين اقسموا بالله العظيم أن يقوموا بواجباتهم ويحافظوا على علم بلادهم ويذودوا عن وطنهم. وقد خبروا الميدان وهم مقتنعون ببذل دمائهم في مواجهة العدو في الجنوب والخطر الارهابي انّى وجد، والدفاع عن كرامة المواطنين وحمايتهم .
السؤال البديهي الذي يطرح هو كيف يتصرف العسكريون المتقاعدون اذا كان الاجحاف في تأمين حقوقهم قد وصل اليهم؟ في حين يعتقد الكثيرون منهم، وهم محقون، ان عيشهم الكريم مع عائلاتهم واستمراره يفرضان حكما ان يكونا في عهدة دولتهم، كونهم وهي كيان واحد.
اكثر الاساءات التي خدشت صورة لبنان القوي، كانت في مشهد تجمّع فيه عسكريون متقاعدون وعائلات الجرحى والشهداء من كل الاجهزة العسكرية والأمنية، وفي ساحة الشهداء بالذات، للمطالبة برفع الغبن عنهم من خلال اعادة دراسة مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب. هذا المشهد يشكل انتكاسة كبيرة في مقاربة الواقع، الذي يفرض ان يُشعِر هؤلاء بالامان المعيشي، وان لا تنتهي حياتهم وهم ينظرون بأسى الى ما كانوا يفخرون به عندما اقسموا يمين الولاء للوطن والتضحية من أجله حتى الشهادة، وكيف ان احدا الان لا يلتفت الى حقوقهم، وكأنهم اضحوا متروكين لمصيرهم.
هل سأل أحدٌ ممن يعوقون إقرار حقوق العسكريين المتقاعدين: ما هو تأثير تظاهرة كهذه على العسكريين المنتشرين على مساحة الوطن لجبه الاعتداءات الاسرائيلية والارهابية، ناهيك باستنزافهم المستمر بسبب حفلات الزجل السياسي والتشنجات التي تليها وتعبّر عن ذاتها حيناً بقطع الطرقات، واحيانا بالتجمهر واثارة الفوضى ليكتمل المشهد الممل في ملاعب الرياضة وصالاتها؟
ليس من نافل الامور ان تتعرض اي دولة لاهتزازات اجتماعية متصلة بمؤشرات الحد الادنى للأجور او بمستويات العيش، فذلك يبقى امرا مطروحا على الدوام خصوصا في الدول المحدودة الموارد والرؤية. لكن ما ليس عاديا على الاطلاق ان يضطر المتقاعدون من الاسلاك الأمنية والعسكرية في لبنان للنزول الى الشارع او الوقوف عند الابواب للمطالبة بما هو حق مستحق لهم بالسهر والتضحيات وببذل الارواح دفاعا عن لبنان.
المبتدأ والخبر في النظم الديموقراطية هو فعالية القوى النقابية كقوة ضغط، تحد وتضبط اداء السلطة في الملفات الاجتماعية والاقتصادية. واذا صح ان أعرق الديموقراطيات تطورت بفعل الحوارات وحتى الارتطامات بين ثلاثي الدولة، ارباب العمل والعمال، فإن الاصح والاوضح، هو انه لم يسبق لنظام سياسي ان شهد ما يشهده لبنان في الآونة الاخيرة من اضطرار العسكريين الذين احيلوا الى التقاعد، وذويهم من اهالي الشهداء والمعوّقين والجرحى، للتظاهر والاعتصام للمطالبة بحقوقهم. فقد نسي البعض ان هؤلاء هم هيبة الدولة وسيفها المسلول في الاخطار ضد اي عدوان او انتهاك خارجي او داخلي.
رواتب المتقاعدين ليست منّة من احد أو مكافأة على خدمات المتقاعد، بل هي بعض الفائدة على المحسومات التقاعدية التي تقتطعها المالية من راتبه في اثناء خدمته.
وكي يبقى نداء “يا وطن” هو الأصدق والأكثر اشراقا ونقاء، ينبغي ان يسود فكر “الدولة”، وليس اي فكر آخر عند مناقشة ملفات كهذه ضناً بلبنان “الكرامة والحق الانساني“.
عن مجلة الأمن العام