أميركا و«إسرائيل» مقابل محور المقاومة: الخط الأحمر بين العقدة النفسية والحرب النفسية
ناصر قنديل
– في عهدين أميركيين متعاقبين عاش مصطلح الخط الأحمر مع ولاية الرئيس السابق باراك أوباما وعادت محاولات إحيائه في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب. والقصد ليس موضوع الخط الأحمر الذي غالباً ما يكون تصنيعاً أميركياً هوليودياً، لأنّ الهدف هو مفهوم الخط الأحمر نفسه. فالدولة العظمى هي التي تثبت أنها في كلّ ساحة تحضر فيها كلاعب تتقدم اللاعبين الآخرين برسم قواعد الاشتباك، والتي يُشار إلى مهابة القوة فيها بالإعلان عن وجود خط أحمر، وكلما كانت الدولة العظمى قوية كان خطها الأحمر متصلاً بقضايا علنية للتصادمات لا مجال لبنائها على اتهامات كما هو حال الخط الأحمر الذي ورثه الرئيس الحالي عن سلفه والمتصل بالاتهام باستخدام السلاح الكيميائي الذي يبقى اتهاماً لم يتمّ إثباته بتحقيق مستقلّ ونزيه، طالما ثبت أنّ واشنطن تتهرّب من طلبات روسية جدية للتعاون في إجرائه، فيصير السؤال لماذا لم ترسم واشنطن خطاً أحمر عند أبواب حلب مثلاً، وتقول إنّ دخول الجيش السوري حلب خط أحمر، ومثلها «إسرائيل» التي ترسم خطاً أحمر مشابهاً تسمّيه نقل شحنات أسلحة كاسرة للتوازن لحزب الله، فضحتها تقارير مخابراتها بالتساؤل لماذا لم نسمع يوماً عن غارة تستهدف شحنة سلاح بعد عبورها الحدود السورية إلى لبنان، وبقي الخط الأحمر في سورية أم أنّ «إسرائيل» خاضعة لخط أحمر رسمه حزب الله يمنعها من ضرب أهداف في لبنان خشية نشوب حرب؟
– اعتادت أميركا واعتادت «إسرائيل» أنهما في كلّ صراع تضعان قواعد الحرب وتسمّيانها حرصاً على تعجرف القوة برسم الخطوط الحمر. وبدا في الحرب السورية أنّ هذه الخطوط تبهت وتحتاج إلى ما يشبه الخرافات للحفاظ على معادلاتها الكلامية، بينما في الواقع واضح أنّ القوى التي تريد واشنطن وتل أبيب حمايتها تُهزم وتتلاشى، فدخول حزب الله الحرب في سورية بحدّ ذاته يصلح ليكون خطاً أحمر إسرائيلياً، بمجرد أن أدركت «إسرائيل» على الأقلّ لا جدوى الرهان على استنزاف حزب الله في هذه الحرب، فمنذ حرب القصيْر عام 2013 ثبت أنه قيمة مضافة ستفعل فعلها في تغيير وجهة الحرب التي تريد لها الاستمرار إذا تعذّر إسقاط سورية لحساب الحلف الذي تقوده واشنطن وتلعب «إسرائيل» فيه دوراً محورياً، لكن «إسرائيل» التي ترى بأمّ عينها حلمها يتلاشى لم تجرؤ يوماً على القول إنّ وجود حزب الله في سورية خط أحمر دونه حرب شاملة، ولا واشنطن تجرّأت، وكذلك بالنسبة لقدوم القوات الروسية والإيرانية وسواها من الحلفاء، حتى ضاع حلم الحليفين معاً، وبقي البحث عن وهم يعلّق عليه مصطلح الخط الأحمر، وربما نستفيق يوماً نسمع ترامب يقول إنّ رحيل الرئيس السوري خط أحمر وليس بقاءه، فقط ليقول وزير دفاعه في اليوم التالي كما فعل مع التهديد بتهمة استعمال سورية للكيميائي، يبدو أنّ الرئيس السوري قد أخذ تحذيراتنا بالحساب أو يخرج نتنياهو ويقول إنّ انسحاب حزب الله من سورية وليس بقاءه فيها خط أحمر ليخرج ويقول لقد فعلت تهديداتنا فعلها وحمينا الخط الأحمر.
– عندما أُعلن الكيميائي خطاً أحمر كانت المخابرات الأميركية تشتغل لاستعماله من بنغازي في ليبيا، حيث سلّم غاز السارين لجبهة النصرة ومستشارين أتراك، ليُستعمل في الغوطة، ويصير القول عن تخطي الخط الأحمر مبرّراً لضربة تغيّر الموازين وتردّ للجماعات المسلحة قدرة إمساك زمام المبادرة، كما تقول التقارير الأميركية عن خطة الضربة التي صمّمت في عهد أوباما. جاء الردّ الروسي والإيراني يقول إنها ستتحوّل حرباً شاملة، فصار صرف النظر عنها. وهذا يعلمه ترامب الذي يتنمّر على سلفه أوباما باتهامه بالتخاذل مع تخطي الخط الأحمر ويظهر عنتريات القدرة على حمايته بتصنيع ما يشبه ما جرى أيام أوباما لتوجيه ضربة لا تشبه تلك التي كان ينوي أوباما توجيهها، ليخرج ويقول لقد حمينا الخط الأحمر، لكن ترامب وإدارته وقعا في ما لم يقع فيه أوباما، فللمرة الأولى حدّدوا خطاً أحمر واقعياً يتصل بمسارات الحرب عندما أعلنوا اعتبار بلوغ الجيش السوري والحشد الشعبي الحدود السورية العراقية خطاً أحمر، وتمّ الدوس على الخط الأحمر.
– لعبة الكيميائي الجديدة المعلنة أميركياً تبدو معالجة لخطيئة سقوط الخط الأحمر وانفضاح عناصر الضعف الأميركي، بالعودة للخط الأحمر الوهمي، والاحتماء به مجدّداً عبر التهديد. وقد تحوّل الخط الأحمر من حرب نفسية إلى عقدة نفسية، ومثله وقع «الإسرائيلي» بشيء مشابه عندما تحدّث قادته عن حرب استباقية، وفق نظرية المخابرات «الإسرائيلية» التي تقول إنّ الحروب مع حزب الله كلها سيئة، وإنّ المفاضلة بين حرب سيئة وحرب أسوأ، وأن لا قدرة لـ»إسرائيل» مهما فعلت على تجنّب صواريخ حزب الله في حال وقوع حرب، وقد صارت الصواريخ تغطي الجغرافيا الخاضعة للاحتلال كلّها ومنشآتها ودفاعاتها، وقادرة على تحقيق إصابات دقيقة ودمار هائل وخسائر لا تُحتمل، ليكتشف قادة الكيان أنهم رسموا الخط الأحمر الجديد لتنامي قوة حزب الله بالتلويح بحرب استباقية يستدعي تسويقها إيراد معلومات ووقائع فعلت فعل الحرب النفسية على الجمهور «الإسرائيلي»، وردعته عن فكرة الحرب، ليتولى رسم خط أحمر لقياداته، بالقول بلسان مسؤول الجبهة الداخلية ممنوع التفكير في الحرب، فليس لنا طاقة على تحمّلها.
– يصير الخط الأحمر عقدة نفسية بعد أن كان حرباً فعلية وتحوّل تدريجاً لحرب نفسية، لكن في المقابل هناك مَن يرسم الخط الأحمر في الميدان، فيقول قادة الحشد الشعبي، طريق بغداد – دمشق فتحناها ولن تُغلَق، ويقول نائب وزير الخارجية السوري الدكتور فيصل المقداد، هذه المرّة سيكون الردّ مختلفاً إذا وقع عدوان أميركي ونأمل أن يأخذ الأميركيون تحذيراتنا في حساباتهم، ويضيف السيد حسن نصرالله لدفتر الحسابات «الإسرائيلية» عن ضرب العمق والتوغّل البري المعاكس، مجيء مئات الآلاف لقتال «إسرائيل».
– حول الحرب النفسية تنشر «معاريف» تقريراً عن كلية تعليم التحدّث أمام الجمهور. وهي كلية أكاديمية في تل أبيب لتخريج القادة السياسيين والإعلاميين والاقتصاديين، وتقول إنّ خطابات السيد نصرالله لها فصل تدريسي خاص، يتضمّن شرحاً لتدرج التفوّق الاستراتيجي الإعلامي لخطاب السيد وحربه النفسية. ومن هذا الفصل كيف بنى السيد خطابه على الصدق وراكم عليه الصدق دائماً حتى عندما تكون الحقيقة مؤلمة، بخلاف القادة «الإسرائيليين» الذين كثيراً ما ينشرون معلومات غير صحيحة ضمن حربهم النفسية أو يحجبون معلومات هامة وحقيقية. وبعد اكتساب صفة الصادق راكم السيد على هذه الصفة الثقة بأنه إذا وعد وفى وإذا هدّد نفّذ وإنّ ما يعلنه من خطوات سيفعله حكماً، فبنى الثقة التي صارت مصداقية. ويورد هنا أمثلة كتدمير البارجة ساعر على الهواء، وتعامله مع ملف الأسرى، وفي المقابل يقوم قادة الكيان بالإعلان عن نيات وأهداف لا يستطيعون تحقيقها ووعود لا تقبل الوفاء بها وتهديدات غير قابلة للتنفيذ. ويتضمّن الفصل تحليلاً لمعنى تحوّل الصدق مصداقية، ليصير ربط العناصر الممكن تصديقها بالفرضيات التي لا يمكن اختبارها، لبناء منظومة ردع نفسي هي أصل الحرب النفسية، فالكلام «الإسرائيلي» يوثّق حقائق ما يمتلكه حزب الله من طاقة صاروخية وقدرة تدمير، فيكفي أن يؤشر السيد لفرضية قصف ديمونا أو مستوعبات الأمونيا حتى يُصاب «الإسرائيليون» بالهلع.
– الحرب الأميركية «الإسرائيلية» خط أحمر رسمته القوى والحكومات في محور المقاومة وحلفائهم وعلى رأسهم روسيا، وما يجري من رسم خطوط حمراء افتراضية ليس إلا تهرّباً من الاعتراف بالالتزام بالخط الأحمر الأصلي، لا حرب أميركية «إسرائيلية». والفرق كبير بين الخط الأحمر في الحرب النفسية، والخط الأحمر عندما يتحوّل عقدة نفسية.