مخططات اميركا في سوريا مآلها الفشل د.منذر سليمان
تصعيد أم حرف أنظار
جددت الولايات المتحدة تهديداتها لسوريا متوعدة بتكبيدها “ثمناً باهظاً،” كما جاء في بيان البيت الابيض، 26 حزيران، على خلفية مزاعم بأن “الولايات المتحدة حددت استعدادات محتملة لشن هجوم آخر بالاسلحة الكيميائية ..” واكد رسالة التهديد وزير الدفاع الاميركي، جيمس ماتيس، 28 حزيران، بأنه لن “يتحدث عن العمليات المستقبلية المحتملة على الاطلاق.”
وابلغ ماتيس طاقم الصحافيين المرافق له لحضور مؤتمر وزراء دفاع حلف الناتو ان سوريا “تبدو أنها انصاعت للتحذير” الاميركي دون عناء ابراز أدلة على تطورات جد خطيرة قد تنزلق فيها المنطقة الى حرب لا تُبقي ولا تُذر.
من الطبيعي ان تتطابق الردود السورية والروسية برفض الادعاءات، وتحذير واشنطن بالمقابل بأن الانتصارات التي يحققها الجيش السوري “لن تتوقف،” سواء في درعا والجنوب، او دير الزور وتدمر، بعد ان ظفرت دمشق وحلفاءها بمعركة التنف على الحدود المشتركة مع الاردن، وتهاوي المشروع الاميركي لدق إسفين في خاصرة رخوة لسوريا، بشريط عمقه 12 كلم.
تفنيد السردية الاميركية الرسمية أتى مفاجئا للبيت الابيض كونه جاء من مصادر عدة من الصعب الطعن فيها، ولجأت بمعاونة وسائل الاعلام الرئيسة كافة الى تجاهل كلي لتلك التقارير، والتي سنأتي على ذكرها لاحقاً.
بداية، كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن أن فريقاً من العسكريين الاميركيين، بعضهم في قيادة القوات المركزية، أعرب عن دهشته من تحذير البيت الابيض، لهجةً وتوقيتاً، مشيرين الى أنهم لم يكونوا على علم بأي هجوم سوري من هذا القبيل، مما اضطر البيت الابيض صباح اليوم التالي اصدار بيان مفاده ان القرار الرئاسي “صدر بعد التشاور مع وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية ومدير الأمن القومي.” الأمر الذي يستدرج تساؤلات حول طبيعة وأبعاد القرار ان كان بدافع توزيع الأدوار أم أنه يعكس خلافات حقيقية على رأس المؤسسة، وبشكل محدد بين وزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشار ترامب للأمن القومي هيربرت ماكماستر.
الجزم في هذه القضية ليس بالأمر اليسير، لكن القرار الرئاسي، مهما كانت ابعاده، يعد القرار النافذ وينبغي التعامل معه على هذا الأساس، على الرغم من شعور المحللين والساسة والمراقبين بالاجماع ان “البيت الابيض والمؤسستين العسكرية والاستخباراتية تفتقد بمجموعها لرأي متطابق او سياسة” واضحة المعالم.
من الضروري الاشارة الى ان هاجس ادارة ترامب مرتبط عضوياً بقلق “اسرائيل” من تجذر معسكر المقاومة وتراكم الخبرات العسكرية والميدانية بكمٍ يُشهد له، واعادتها تصويب السهام باتجاه ايران بشكل خاص.
أحد كبار العسكريين الاميركيين من المتقاعدين علق قائلاً أنه لا يستبعد مطلقا مبادرة نتنياهو إلى الاتصال بصهر الرئيس جاريد كوشنر وابلاغه عظيم قلق المؤسسة “الاسرائيلية” من تراكم انتصارات سوريا ميدانياً، لحث الرئيس ترامب على الاقدام على عمل عسكري جديد. ترامب من ناحيته وجدها فرصة سانحة لصرف الأنظار عن أزماته الداخلية وملاحقته قضائياً.
التفنيد الرئيس والأشد ايلاما للمؤسسة الاميركية الحاكمة جاء عبر تقرير مطول نشره الصحافي الاستقصائي الشهير، سيمور هيرش، يوم 25 حزيران، قبل اعلان البيت الابيض، بأن أجهزة الاستخبارات الأمريكية لم تكن لديها أدلة يقينية تثبت مسؤولية الحكومة السورية عن الهجوم الكيماوي على بلدة خان شيخون في ريف إدلب، يوم 4 نيسان 2017؛ وذلك بناء على “مصادر موثوقة داخل البنتاغون ومجمّع اجهزة الاستخبارات الاميركية” أبلغته ذلك.
تقرير هيرش المطول بعنوان الخط الأحمر لترامب فحواه ان الولايات المتحدة واخطبوط اجهزتها الاستخباراتية كانت تعرف ان (الرئيس) الأسد لم يكن لديه أسلحة كيميائية، قبل إصدار ترامب قراره بشن غارة جوية واطلاق 59 صاروخ توماهوك، على قاعدة الشعيرات الجوية؛ مؤكدًا أن بعض المَسؤولين العسكريين الأمريكيين، ومنهم ضباط ميدانيون، شعروا بالقلق من تصميم ترامب على تجاهل التقارير التي أرسلوها.
واعرب أحد العسكريين لهيرش عن الأسى الشديد داخل المؤسسة العسكرية الاميركية لتصرفات الرئيس ترامب قائلا ان الأخير “لا يقرأ شيئا، ولا يملك أي معرفة بالتاريخ، ويميل للتصرف بشكل متسرع، ويخلط بين إدارة صفقات تجارية، وبين الأعمال العسكرية، ولا يعلم أن الخسارة في الأولى مالية، وأما في الثانية فهي إزهاق أرواح تلحق ضرراً بالأمن القومي الأميركي على المدى البعيد.”
فجّر التقريرأيضاً حزمة من القضايا تدين الحكومة الاميركية، نقتطف منه إعادة تأكيده على “دور إدارة اوباما النشط في تهريب الاسلحة من ليبيا الى سوريا، مرورا بالاراضي التركية .. وانشاء جملة من الشركات الوهمية من قبل المخابرات التركية لتغطية تمويل وتسليح المجموعات الارهابية” داخل سوريا.
كما اعرب هيرش عن “استيائه من آلية تعاطي وسائل الاعلام الاميركية (الرئيس) مع الغارة الجوية التي نفذها سلاح الجو الاميركي في خان شيخون” والتي كانت تخضع لسيطرة ما يسمى “هيئة تحرير الشام؛” ونقلها لروايات “شهود عيان” دون تمحيص بأنهم استطاعوا “شم رائحة غاز السارين من على بعد 500 متر؛” على الرغم من خصائص السارين الكيميائية بأنه غاز عديم الرائحة.
“اضطر” هيرش إلى التوجه لصحيفة ألمانية داي فيلت لنشر تحقيقه بعد رفض كافة وسائل الاعلام الاميركية، خاصة تلك التي سبق له وعمل معها، بل لا يجد المرء اي إشارة لتقريره في أي من المواقع الاميركية الرئيسة.
ألمانيا لم تعد تخفي استياءها من سياسات واشنطن التصعيدية، وذكّرت المستشارة انغيلا ميركل أميركا بأنها بعيدة بضعة آلاف الأميال عن المنطقة، اما اوروبا فهي الأقرب ولا تملك ترف المجازفة اشعال حرب غير محمودة العواقب.
بعد بضعة أيام، كشف المفتش السابق لأسلحة الدمار الشامل في العراق، سكوت ريتر، 29 حزيران، عن وقائع تعزز ما ذهب إليه هيرش، في تقرير منفصل تحت عنوان ادعاءات ترامب بغاز السارين مبنية على أكاذيب، نشره في اسبوعية أميريكان كونسيرفاتيف The American Conservative.
أهمية مقال ريتر تكمن في اقراره بأنه اطّلع مسبقا على استقصاء هيرش وقام “بمساعدته في التحقق من صدقية المعلومات المبينة،” نافياً ان يكون مصدراً لأي من المعلومات المتضمنة.
واوضح انه اثناء التحقق من وقائع حادثة خان شيخون “لم يتقدم أحدٌ بدليل مادي يشير الى إطلاق سلاح كيميائي .. فريق الاتهام ضد سوريا بنى رواية عناصرها ظرفية صرفة – العديد من الضحايا ومن هم على فراش الموت، لكن لا دليل يربط مأساة اولئك بحدث مادي محدد” يمكن اخضاعه للقواعد العلمية الدقيقة.
كما فند ريتر “تقارير” منظمة حظر الاسلحة الكيميائية الدولية التي “استنتجت ان غاز السارين او عنصر مشابه للسارين” تم استخدامه في خان شيخون. ودحض ريتر مزاعمها بالتأكيد على ان “المنظمة غير مؤهلة في اطلاق حكمها كما ورد،” نظراً لاقرارها لاحقاً بأن فرقها المنتشرة “لم تتمكن من دخول خان شيخون في أي وقت.”
يشار في هذا السياق الى تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست مؤخراً كشفت فيه “مسؤولية” الولايات المتحدة وقوات تحالفها الدولي استخدام الفوسفور الابيض في مناطق مأهولة بالسكان في الموصل والرقة. المتحدث الاميركي باسم قوات التحالف، العقيد ريان ديلون، لم يؤكد أو ينفي استخدام الفوسفور المحرم دوليا، مكتفيا بالزعم أن “قوات التحالف تأخذ كافة الاحتياطات لتقليل خطر الإصابة العرضية لغير المقاتلين.” اما “منظمة هيومن رايتس ووتش” اكتفت بالتعليق بأنها “لا تزال تحقق فيما إذا تعرض المدنيون حقا لهذا النوع من الذخائر.”
خيارات واشنطن
الخوض في خيارات واشنطن المتاحة والممكنة يستند الى فرضية تسيّد منطق دعاة الحرب بالمضي قدما في “توجيه ضربة استباقية لمزاعم حيكت مسبقا” وتنفيذ احدى آخر حلقات المشروع الاميركي بهجوم مباشر لتقسيم سوريا.
من بين الخيارات الاميركية:
شن غارة جوية “استباقية” ضد قاعدة او سلسلة قواعد جوية سورية وما تستدعيه من حركة استطلاع جوية مكثفة وما يواكبها من حركة اتصالات نشطة، بالرغم ما ينطوي عليها من مخاطر ديبلوماسية وسياسية.
تعزيز الغارة الجوية بقصف لمدرجات الطائرات، كما حاولت عند قصفها قاعدة الشعيرات في شهر نيسان الماضي. وتدرك القوات العسكرية الاميركية ان اصلاح مدرجات اي قاعدة عسكرية أمر محسوب مسبقا لدى الطرف المتضرر، وما هي الا فترة زمنية قصيرة قبل ان تعود المدرجات للخدمة الفعلية.
فتح جبهات مواجهة عسكرية مع الجيش العربي السوري في مناطق أخرى بالايعاز للمجموعات المسلحة المتحالفة مع واشنطن؛ وهو ما يجري تطبيقه راهنا.
يستبعد القادة، عسكريين وسياسيين على السواء، انخراط اعداد كبيرة من القوات الاميركية في الحرب على سوريا، ويرجحون الاولوية لاطلاق صواريخ كروز بعيدة المدى، تواكبها حرب تشويش الكترونية، لإرضاء فريق المتشددين والأعوان الإقليميين لا سيما في دول الخليج.
الرد السوري – الروسي
بداية لم يقدم أحدٌ أدلة منطقية لماذا قد يلجأ الرئيس الاسد استخدام عناصر كيميائية في ساحة حرب له فيها الكفة الراجحة ويحقق انتصارات ميدانية متسارعة، بفضل صمود سوريا ودعم الحلفاء. فضلاً عن أن أي حرب يستخدم فيها السلاح الكيميائي غير مضمونة النتائج وعادة يلجأ إليها الطرف المتراجع وليس المتقدم، وتنتفي الحاجة لها في ظل المعادلات القتالية القائمة، لا سيما وان سوريا اعلنت انضمامها لاتفاقية حظر الاسلحة الكيميائية، 12 ايلول / سبتمبر 2013، وما ينطوي عليها من مسؤوليات وفق نصوص القانون الدولي.
اميركا، من وجهة نظر سوريا وروسيا، تستغل “زوبعة” الكيميائي كذريعة لتدخلها المباشر في سوريا؛ وربما تكتفي اميركا بتفسيرها ان اقدمت سوريا على تدريبات وقاية من الاسلحة الكيميائية لشن عدوانها. وهذا يقتضي من سوريا وروسيا معاً إبلاغ واشنطن مسبقاً بأي تدريباتً وقائية قد تُجريها، وما يَستتبعها من حركة استطلاع (اميركي) مكثفة للتحقق من صدقيتها.
معادلة توازن الرعب يدركها جيدا الطرفان الاقوى، روسيا واميركا، ويقع على الاولى عبء توضيح كلفة المغامرة لواشنطن التي لن تصغي لسواها، خلف الابواب المغلقة.
المسألة في جوهرها أبعد من “أسلحة كيميائية،” محتملة أو مختلقة، بين القطبين العالميين. انها صراع على النفوذ وعلى مستقبل سوريا في منطقة لا تزال تشهد صراعاتٍ وهزاتٍ اجتماعية لن يغامر أحدهم بالتكهن الى ما ستؤول اليه الاوضاع المقبلة. وهي صراع يحشد فيه الطرفين حلفاءهما، لا سيما حلف الناتو وتمدده في اوروبا وبمحاذاة الحدود الطبيعية لروسيا.
الولايات المتحدة، من جانبها، لم تقلع بعد عن مخططاتها بتغيير بنية الأنظمة بما يتلائم ومصالحها في الهيمنة والتبعية. روسيا، بالمقابل، تتلمس طريقها في صعودها ثانيةً بقوة على المسرح الدولي وأثبتت أنها بعيدة كل البعد عن اخلاء الساحة لخصمها اللدود؛ وما تقاربهما في زاوية ضيقة “بمحاربة ارهاب داعش” الا ظاهرة مرحلية سرعان ما تختفي ويأخذ الصراع الكوني بينهما آفاقا أخرى.
القوى الاميركية النافذة في القرار السياسي لا يزال يراودها حلم اسقاط الدولة السورية، وهي تُقدمه على أي اولوليات سياسية أخرى. إذ تكمن مصلحتها في إطالة أمد الحرب على وفي سوريا، والمحاولة تلو الاخرى لجر سوريا وروسيا لحرب هناك، خاصة في ظل انكشاف “سندها الاستراتيجي” بقرب القضاء على داعش وتراجع منطق ومتطلبات “الحرب الكونية على الارهاب.”
عند العودة للاستدلال على مغزى الاتهام الاميركي الجديد لسوريا، يتشكل شبه اجماع متسارع مع مرور الايام، بأن الادارة الاميركية وأقطابها المتعددة رمت لإطلاق آخر ما في جعبتها “لصرف أنظار” العالم عن مضمون تقرير سيمور هيرش بوصفه ادعاءها السابق في خان شيخون، بأنه “كذبة كبيرة.”
ولعل الاجابة الحقيقية جاءت غير مقصودة بنشر صحيفة نيويورك تايمز، 29 حزيران، مضمون تقرير أعده (مركز مكافحة الارهاب في أكاديمية ويست بوينت العسكرية) يحذر من “اليوم الذي يلي القضاء على داعش.”
واوضح التقرير استناداً إلى شهادات “عسكريين وديبلوماسيين” اميركيين أن “التحدي الأكبر من الاطاحة بدولة داعش .. ربما يكون اعادة البناء السياسي والاقتصادي في السنوات القادمة.”
اذن، القرار السيادي السوري كان ولا يزال هو الهدف طيلة سنوات الحرب الدموية والمدمرة. وينقل الخبير البريطاني المرموق بالشؤون الروسية والاستخباراتية، الكسندر ميركوريس، ما تضمره مجموعة “المحافظين الجدد .. الذين يتحكمون فعلاً بمراكز قوى الدولة العميقة” في اميركا، للسيطرة التامة على “المصارف المركزية” للدول المختلفة وابقائها مديونة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى أمد غير مسمى.
ويستطرد أن سوريا في مرحلة اعادة البناء ستبقى تتحكم ذاتياً ودون تدخل من أحد في آليات مصرفها المركزي والذي باستطاعته اصدار عملته الوطنية كما تقتضيه الحاجة “دون اي اشراف خارجي او مديونية لصندوق النقد الدولي او اي طرف آخر.”
جدير بالذكر ان سوريا طيلة سنوات الحرب عليها، بالوكالة ومباشرة، ابقت على تقديم خدماتها المجانية من تعليم وطبابة ورعاية صحية ودعم الخدمات الاساسية من كهرباء ومياه ومواد غذائية، فضلا عن صرفها رواتب موظفي الدولة المنتشرين في كافة انحاء البلاد. ألا يقلق هذا الأمر الساسة والإقتصاديين الدوليين على السواء ؟!