بقلم ناصر قنديل

كما «إسرائيل»… أميركا عاجزة عن التسويات

ناصر قنديل

تقدم التجربة «الإسرائيلية» مع مشاريع التسويات نموذجاً ثابتاً قوامه أنّ «إسرائيل» القوية لا تستجيب لدعوات التسويات، لأنها نمت وترعرعت على نظريات خرافية جغرافية ونظريات عنصرية عقائدية تجعلان النصر والقوة رصيداً للمزيد من الهيمنة والتوسّع وتلزمان القيادة في الكيان مهما كانت عاقلة في قراءة التاريخ والعجز عن مواصلة السير بلغة الحروب بعدم التصرف بلغة الاعتدال. و«إسرائيل» الضعيفة لا تضعف تجاه الخارج عسكرياً قبل أن تكون قد ضعفت تجاه الداخل سياسياً وصار المتطرفون بيضة القبان الانتخابية في معادلتها السياسية وصارت كلفة التنازل اللازم لصناعة التسويات إسقاط أقوى رئاسات الحكومات فيها بالأصوات أو بالقتل. وفي المقابل صاغت التجربة «الإسرائيلية» الفلسطينية التفاوضية معادلة ثانية قوامها أنّ الحدّ الممكن من التسوية الذي يستطيع أيّ زعيم فلسطيني تسويقه كافٍ لإسقاط الزعيم «الإسرائيلي» الذي وقع عليه، وأيّ حدّ ممكن مقابل للتسوية يمكن لأيّ زعيم «إسرائيلي» تسويقه كافٍ لإسقاط الزعيم الفلسطيني الذي وقّع عليه .

في المقابل تقول الجغرافيا الواقعية في سياسة التفاوض والخرائط العسكرية والسياسية إنّ البحث لا يمكن أن يدور عن تسوية إلا محورها انسحاب «إسرائيلي» من الضفة الغربية، بينما تقول الجغرافيا العقائدية الصهيونية أنّ أصل أرض الميعاد ليس ساحل البحر، وأنّ التاريخ لم يشهد نشوء دولة لبني «إسرائيل» هناك بل في الضفة الغربية، وأنّ الحاجة السياسية نقيض العقيدة، بينما يقول التاريخ ما قالته هيلاري كلينتون عام 2010 أمام منظمة آيباك للجماعات المساندة لـ«إسرائيل»، عن مستقبل قاتم ينتظرها ما لم تذهب لتسوية قابلة للتسويق والحياة، فلا الهجرة باتت ذات موارد تسمح بالحفاظ على التوازن السكاني مع الفلسطينيين الآخذين بالتزايد بقوة التناسل فقط، ولا الزمان زمان الحروب الخاطفة والنصر الحاسم وقد باتا جزءاً من الماضي في زمن صعود حركات المقاومة وحروب الصواريخ، ولا فرص لنمو الاعتدال العربي ولا القيادات الفلسطينية القابلة بالتسويات لبلوغ زمن تسوية ترضي «إسرائيل»، ولو ذهب القادة العرب والفلسطينيون للتطبيع والتنسيق الأمني، فالقضية الفلسطينية لا تزال المحرّك الأول في الشرق لخيارات الشعوب ولو ابتعدت عن الواجهة، ومحور المقاومة والممانعة أثبت أنه يحقق إنجازات أقلها بتحرير جنوب لبنان وغزة ووقف الحروب «الإسرائيلية» بينما لم يحقق خيار التفاوض شيئاً.

حال أميركا دولياً لا يختلف كثيراً عن حال «إسرائيل» إقليمياً، وبمثل ما شكّل الصعود الإيراني وتنامي قوة حزب الله وصمود سورية سبب المأزق «الإسرائيلي»، تسبّب الصعود الروسي والنهضة الصينية بشيء مماثل لأميركا، فالتسويات للملفات الإقليمية، خصوصاً في سورية وكوريا، كمحورين بارزين للصراعات الدولية الكبرى، يختصران الحضور الروسي والصيني في المعادلات الدولية والإقليمية. ومشكلة أميركا التي يبدو من العقلانية لها السير بخطوط التسويات، أنّ العقدة ليست في هذه الملفات بذاتها بل بما سيفتح التفاوض والانخراط في ملفات التسويات من تعقيدات تصيب بنيوياً المصالح الأميركية العليا.

ثلاثة ملفات كبرى حاولت إدارة باراك أوباما مقاربتها بلغة التسويات، ويظهر اليوم أنها موضع مراجعة من إدارة الرئيس دونالد ترامب، وهي ملفات لا تملك إدارة ترامب بلوغ تسويات إقليمية والتراجع عنها، بل عليها تعطيل التسويات الإقليمية لتبرير إقفال لغة الحوار والتفاوض حولها. والملفات تبدو تقنية تفصيلية للكثيرين، لكنها قلب صناعة السياسة والاقتصاد في أميركا وهي ما يعرف باتفاقية المناخ واتفاقية التجارة الحرة، واتفاقية تدوير اليورانيوم المنضب والأولى ببساطة تعني التزام الموقعين عليها بتطبيق إجراءات مكلفة مالياً تزيد كلفة البضائع الصناعية لضمان عدم التسبّب بالأذى الكبير للبيئة الذي تتسبّب به الصناعات التقليدية. والثانية تعني التزاماً مشابهاً في رفع القيود الجمركية أمام تدفق البضائع عبر العالم ومنع أشكال الدعم الحكومي لتخفيض الكلفة على الصناعات الوطنية لتعزيزها في منافسة البضائع المستوردة. والثالثة تعني امتناع شركات صناعة السلاح الكبرى عن استخدام اليورانيوم المنضب في وقود الصواريخ، واللجوء للمواد الخام الأشدّ كلفة أو للاعتماد على اليورانيوم المعالج خصيصاً لهذا الغرض، والهدف منها تعقيد إنتاج كميات من السلاح الصاروخي في سياق التعاون الدولي لتخفيض التوتر والتخلص من المزيد من السلاح الاستراتيجي من أيام الحرب الباردة.

وقّعت إدارة الرئيس بيل كلينتون اتفاقية التجارة الحرة وربطت شراكة روسيا والصين فيها بمعايير للديمقراطية لم تعُد عقبة أمام تقدّم موسكو وبكين في تطبيقها والإفادة من ميزاتها، حتى صارت عبئاً على الاقتصاد الأميركي. ووقعت إدارة الرئيس أوباما اتفاقيتي المناخ واليورانيوم وعجزت عن تطبيقهما، ووقفت القوى المتضرّرة منهما وراء معركة دونالد ترامب، أو وراء الإمساك به بعد فوزه على الأقلّ لفرض أجنداتها على إدارته ونجحت. وبات اليوم واقعاً أنّ واشنطن علقت اتفاقية اليورانيوم واتفاقية المناخ وتعيد النظر باتفافية التجارة، وما يعنيه ذلك من مؤشرات لتحوّل واشنطن كلياً نحو التوحش البيئي والنووي والصناعي والتجاري وانعزالها خلف المحيطات، والجدران التي ليست مجرد مصادفة فيها أن تكون خرائط الجدار الذي تبنيه على حدودها مع المكسيك مأخوذة من الشركات «الإسرائيلية» التي بنت الجدار مع الضفة الغربية.

التسويات الإقليمية التي تقبلها واشنطن هي تلك التي تخسر حروبها وتُنتزع منها، وليست التي تقبل عليها بمنطق البراغماتية السياسية بحثاً عن الأقلّ كلفة والأكثر ربحية، لأنّ لغة التسوية كلّ لا يتجزأ وهي لا تملك قدرة السير فيها حتى النهاية، وتبقى الحروب الصغيرة تبريراً للخلافات والابتعاد عن لغة التسويات هي الأقلّ كلفة فيها ولو لم تكن الأكثر ربحية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى