خمسون سنة… خمسون كذبة : جدعون ليفي
على فرض أن الاحتلال على حق، وعلى فرض أنه لا يوجد خيار لإسرائيل، وعلى فرض أن هذا ليس احتلالا، وعلى فرض أن القانون الدولي اعترف به وأدى له العالم التحية، ولنفترض أن الفلسطينيين يُقرون بالعرفان لوجوده، فما زالت تحلق فوقه مشكلة صغيرة واحدة وهي أنه جميعه مبني على الاكاذيب، من بدايته وحتى نهايته البعيدة، الكثير من الاكاذيب، لا توجد فيه كلمة صادقة واحدة، ولولا أكاذيبه لكان انهار منذ زمن داخل عفنه، لولا الاكاذيب لكان من المشكوك فيه أن يولد، لذلك كفى للاكاذيب، التي يتفاخر اليمين ببعضها («من اجل ارض إسرائيل مسموح الكذب») كي يشمئز منه كل انسان نزيه. لا حاجة إلى فظائعه الاخرى من اجل الاقتناع .
لقد بدأ ذلك مع كذبة ماذا سنسميها. وفي صوت إسرائيل تقرر اسم «المناطق المسيطر عليها»، كذبة رقم واحد. الاحتلال هو ظاهرة مؤقتة، إسرائيل تنوي اخلاء المناطق التي هي فقط «ورقة مساومة» من اجل اتفاق السلام. قد تكون هذه هي الكذبة الأكبر والأكثر تأثيرا. هي التي مكنت من الاحتفال باليوبيل الأول. الحقيقة هي أن إسرائيل لم يكن في نيتها أبدا انهاء الاحتلال. الكذب الصدفي مكنها من تخدير العالم وخداعه.
الكذبة الكبيرة الثانية هي ادعاء أن الاحتلال يحافظ على مصالح إسرائيل الامنية، شعب مطارد يدافع عن نفسه، والكذبة الثالثة هي «العملية السلمية» التي لم تحدث أبدا فعليا، وهي ايضا كانت لكسب الوقت. وقد كانت لهذه الكذبة أرجل كثيرة، كان العالم شريكا فيها، وما زال يكذب على نفسه. يتجادلون ويقومون بطرح خطط للسلام (متشابهة في معظمها) ويقومون بعقد مؤتمرات السلام وجولات للمحادثات والقمم والكثير من الكلام الفارغ. الكذب هو الاساس، وهو فرضية أن إسرائيل تفكر أصلا في انهاء الاحتلال.
الكذبة الرابعة هي بالطبع مشروع الاستيطان. إن القول بأن هذا المشروع وُلد في الكذب سيكون كذبا. فهذا المشروع ولد بالكذب وكبر في الكذب وتعزز في الكذب. ليس هناك مستوطنة واحدة بنيت بشكل نزيه، بدء من النوم ليلا في فندق بارك في الخليل ومرورا بـ «معسكرات العمل» و»معسكرات الحراسة» و»الحفريات الأثرية» و»المحميات الطبيعية» و»المناطق الخضراء» و»مواقع اطلاق النار» والبؤر ـ كل هذه الاختراعات، حتى أكبر الاكاذيب في هذا الموضوع: اراضي دولة. كذب يساوي كذبة «أملاك الغائبين».
لقد كذب المستوطنون وكذب السياسيون وكذب الجيش الإسرائيلي وكذبت الادارة المدنية. الجميع يكذب على نفسه وعلى الآخرين. من الحراسة الليلية لبرج ولدت المستوطنة ومن نهاية اسبوع في فندق قامت اسوأ المستوطنات. الوزراء الذين صادقوا، اعضاء الكنيست الذين غمزوا، ضباط الجيش الذين وقعوا والصحافيين الذين تجاهلوا، الجميع كانوا يعرفون الحقيقة. فالأمريكيين الذين «نددوا» والاوروبيين الذين «غضبوا» والامم المتحدة التي «طلبت» ومجلس الامن الذي «قرر» لم يكن في نيتهم العمل بالفعل. العالم ايضا يكذب على نفسه، وهذا الامر مريح للجميع.
من المريح ايضا نشر الاكاذيب اليومية التي لا تنتهي وتغطي على جرائم الجيش الإسرائيلي وحرس الحدود و»الشباك» ومصلحة السجون والادارة المدنية ـ جميع اجهزة الاحتلال. من المريح استخدام لغتهم، لغة المحتل التي تتبناها وسائل الإعلام.
لا يوجد في إسرائيل تجاهل لشيء مثل تجاهل الاحتلال، ولا يوجد ائتلاف واسع يقوم بنشر صيانة الاحتلال مثل هذا الائتلاف. الديمقراطية الوحيدة التي تستخدم الديكتاتورية العسكرية، والجيش الاكثر اخلاقية في العالم الذي قتل في صيف واحد أكثر من 500 طفل و250 امرأة. هل يمكن لأحد التفكير في كذب أكبر من ذلك؟
وهل يستطيع أحد التفكير بخداع ذاتي أكبر من التفكير السائد في إسرائيل، بأن كل هذا فرض علينا وأننا لم نكن نريده، وأن العرب هم المذنبون. ولم نقل بعد شيئا عن كذبة الدولتين، وكذبة أن إسرائيل تريد السلام، كذبة النكبة وكذبة طهارة السلاح، كذب العالم كله ضدنا، وكذبة أن الطرفين يتحملان المسؤولية.
منذ ذلك الحين «نحن لن نسامح العرب لأنهم اضطروا أبناءنا كي يقتلوهم»، وحتى «الشعب ليس محتل في ارضه»، كذبة وراء كذبة وهذا لم يتوقف حتى الآن. خمسون سنة على الاحتلال، خمسون نوع من الكذب. والآن؟ خمسون سنة اخرى؟.
هآرتس