نضوج معالم نظام إقليمي جديد بقيادة روسية
ناصر قنديل
– حتى العام 1970 كانت حقبة جمال عبد الناصر قد أتاحت إدارة الشرق الأوسط بنظام إقليمي قوامه إدارة موسكو وواشنطن لتناقضات وتفاهمات حلفين متقابلين. واحد يقوده عبد الناصر، والثاني تتوزّع قيادته بين تل أبيب والرياض وأنقرة وطهران أيام الشاه. ومع رحيل عبد الناصر خرجت موسكو عملياً من المنطقة، رغم بقاء قوة الاتحاد السوفياتي وعلاقاته المميّزة بكلّ من بغداد ودمشق، ليسود في الشرق الأوسط نظام إقليمي تديره واشنطن وتهيمن عليه ثنائية سعودية «إسرائيلية»، وتشكّل المعارضة الرسمية فيه سورية، والقوة الخارجة عن النظام تتمثّل بإيران، وتصطفّ أنقرة ومصر فيه على الهامش. وقد نجح هذا النظام بالبقاء حتى العام 2000، ولم يُسعفه انهيار الاتحاد السوفياتي في إطالة أمده، ففي العام 2000 شكّل تحرير جنوب لبنان تحوّلاً جيواستراتيجياً في الشرق الأوسط سقطت معه مكانة القوة «الإسرائيلية» بصورة مدوّية، ودخلت المنطقة في عقدين من الفوضى بذلت خلالهما واشنطن كلّ ما تستطيع لترميم هذا النظام القائم على الثنائية السعودية «الإسرائيلية»، وسادت الحروب والفوضى واللانظام أملاً باستيلاد نظام جديد يُعيد الاستقرار، وفقاً لقواعد تحفظ المصالح الحيوية الأميركية في هذه المنطقة الأشدّ حساسية وأهمية في العالم .
– كانت الحرب في أفغانستان وبعدها الحرب على العراق وبعدهما حرب تموز 2006 على لبنان ومقاومته وحروب غزة. وصعدت روسيا كقوة جديدة طامحة مع وصول الرئيس فلاديمير بوتين عام 2000، وبدأت إيران تتعافى من أضرار الحروب والعقوبات، وتحضر كقوة إقليمية، وصعدت سورية كراعٍ للمقاومة مع تهاوي اتفاقيات السلام مع «إسرائيل» التي شكّل «كامب ديفيد» أول ثمارها، وفي المقابل صعدت تركيا مع رجب أردوغان وحزبه منذ العام 2000 بمشروع إسلامي منضوٍ في حلف الناتو يستند لتنظيم الإخوان المسلمين ويتطلّع للعب دور إمبراطوري عبر توظيفهم في تلبية الحاجة الأميركية لإعادة إنتاج نظام إقليمي جديد لحساب أميركا، تطمح أنقرة لقيادته وتأمين مصالح فرقائه سواء الواقفون في ضفة واشنطن، أو مقابلها، وخصوصاً موسكو وطهران اللتين حافظت معهما على علاقات طيبة.
– شكلت السنوات العشر الأخيرة فرصة اختبار انتهت بفشل ذريع للربيع العربي ومعه لمنظومة العثمانية الجديدة. وكان صمود سورية هو حجر الرحى في تغيير اتجاهات الريح. وفي الحصيلة بات واضحاً أنه رغم كلّ الصراخ والضجيج، لم يعد ثمة ما يمكن للزجّ به من مقدرات لتغيير ما رست عليه التوازنات، وبانت علامات التفكك في حلف واشنطن بخروج تركيا من ضفة إلى ضفة بتوليها دور الشريك الكامل في منظومة أستانة التي تديرها روسيا وترعاها تركيا وإيران. وانتقل الصراع مع تركيا إلى الخليج بالمواجهة المفتوحة السعودية القطرية، وبدت واشنطن العاجزة عن امتلاك لغة صالحة للتعاون مع طهران، وصيغة واضحة لاستيعاب وترميم العلاقة بتركيا، تحكم على نفسها بالفشل بقيادة أيّ نظام إقليمي جديد، لا بدّ أن يرث الحروب التي بلغت مراحلها النهائية.
– نجحت موسكو بإمساك العلاقة التركية الإيرانية من الوسط وثبتت لغة المصالح فيها بقوة. ونجحت في المقابل بلغة المصالح أن تضع لتركيا قضية أمن قومي اسمها منع ولادة كيان كردي على حدودها عنواناً لما تريده من هذا النظام الإقليمي، بينما وضعت لإيران قضية الاعتراف بها لاعباً حاسماً في الشرق الأوسط وحفظ الاستقرار فيه وحلّ قضاياه العالقة، وقد شكّل التفاهم على ملفها النووي أولى ثمار هذه المعادلة، ووضعت قواعدها للتعامل مع اللاعبين الحاسمين الآخرين في خريطة الشرق الأوسط، فجعلت قضية الأمن بعد تعافي سورية وتنامي قوة حزب الله وإيران هاجس «إسرائيل» الأول الذي لا يملك أحد القدرة على تبديده مثلما تملك روسيا القدرة على مناقشة مقتضياته والإمساك بخيوطه، ولو بدفتر شروط قاسٍ على «إسرائيل»، بينما لا تملك واشنطن إلا تقديم مال وسلاح وتطمينات لا تغيّر كلها في الحسابات الكبرى للحروب. وتوجّهت صوب مصر وهي تملك منحها الدعم الفعلي لحسم الوضع في ليبيا، رغم كونه بالمواجهة مع تركيا التي تحرص موسكو على العلاقة معها، بينما واشنطن واقفة على ضفة موقف الأطلسي وراء حكومة فايز السراج التي تدعمها تركيا وتقاتلها مصر وتدعم الجيش بقيادة خليفة حفتر. وكانت السعودية الركن الوحيد في المعادلة الذي تسعى موسكو لجذبه نحو الانخراط.
– في الظاهر بدا أنّ قمم الرياض وصفقاتها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب ستبعدان الرياض عن موسكو، وفي الواقع بدا أنّ ما يملكه ترامب ليقدّمه للسعودية لا يتعدّى الكلام، وتغطية أرباح من داخل البيت كتنصيب ولي ولي العهد مكان والده أو فتح النار على قطر، بينما كلفة هذه العلاقة على السعودية في ظلّ اقتصاد مأزوم وعجز يتضخم في الموازنات، واحتياطات محجوزة، تجعل الهاجس المالي أول الاهتمامات السعودية، ومفتاحه في استقرار السوق النفطية التي تتقاسم الرياض وموسكو فيها لقب أكبر منتجَيْن للنفط في العالم، ومن دون التفاهم مع موسكو لن يتحسّن سعر النفط ولن تتحسّن مداخيل الرياض.
– خلال أيام متسارعة كانت موسكو تثبت نظام أستانة بشراكة إيرانية تركية، وتتفاهم مع فرنسا الدولة الأوروبية الأهمّ في الشرق الأوسط، وتمدّ جسور التوصل لتفاهمات كبرى مع مصر والسعودية، ممسكة بهواجس كلّ منهما وبيدها المفتاح، ملوّحة بمفتاح مشابه للهواجس «الإسرائيلية» سبق ولوّحت به لتركيا، تحت عنوان أنّ المزيد من التلاعب بالجغرافيا السورية، عبر توظيف جبهة النصرة وسواها، سيمنح المشروعية لتموضع مقابل في هذه الجغرافيا. وكما الأكراد في حالة تركيا، سيجعل هذه الجغرافيا مصدراً للمزيد من القلق باقتراب حزب الله من الحدود الجنوبية لسورية، وبالتالي فإنّ الاستثمار في قيامة الدولة السورية المركزية مهما كانت الخلافات معها يبقى ضماناً للاستقرار الذي يحتاجه الجميع.
– تبدو روسيا قبل شهر من قمة الرئيسين بوتين وترامب ترتّب أوراقها لمشروع نظام إقليمي جديد، لشرق أوسط جديد، بينما واشنطن تحمل أعباء حلفائها الخائفين ومصالحها المهدّدة، ويبدو تفويض روسيا بإدارة الاستقرار أقرب الطرق لحفظ المصالح وطمأنة الحلفاء.