مقالات مختارة

لقاء القدس: بن كسبيت

 

في يوم الاثنين ستصل الى البلاد بطة عرجاء اسمها دونالد ترامب. في العادة البط الاعرج لا يشكل خطرا على محيطه، لكن دونالد ترامب هو حالة استثنائية. فكلما زادت اصابته كلما كان خطره أكبر. هذه البطة العرجاء لها أسنان حادة وفتيل قصير ولها صلاحية قيادة القوة الاكبر في العالم. وكلما زاد شعوره بالحصار كلما تلاشت الحدود والعقبات التي امامه.

منذ زمن لم يعد الموضوع في الولايات المتحدة ديمقراطيون ضد جمهوريين، أو محافظون ضد ليبراليين. المفارقة بخصوص ترامب دخلت منذ زمن الى النفوس، بمجرد حقيقة أن شخص من هذا النوع نجح بطريقة ما في الوصول الى المكتب الاهم والاقوى في العالم. الامر لم يعد جدالا حول سياسة ترامب وانجازاته وأدائه، بل إن حقيقة وجوده في البيت الابيض ووقوفه على رأس الأمة، اصبحت مصدرا لخجل الامريكيين أينما وُجدوا. الاحابيل التي استخدمها ترامب في حملته الانتخابية كانت جيدة للحملة. كانت امامه مرشحة مكروهة، وهو استغل الغدد الاكثر حساسية لدى المصوت الامريكي من اجل الفوز. وحطم كل الامور المتفق عليها وكل ما عرفناه في الحملات السياسية، وفعل ما يخطر بباله. في المفارقة بين الاستمتاع والفوز، اختار الاستمتاع، وانتصر ايضا. هذا جعله ينتفخ. الامر الجيد من اجل الفوز في الانتخابات ليس ناجعا عند الحصول على القوة العظمى ومكانة الرجل البالغ والمسؤول علنيا. الآن ترامب هو الشيء الأبعد في الكون عن أن يكون «بالغا ومسؤولا». يصعب الآن ايجاد شخص في مجلس الشيوخ أو الكونغرس الجمهوري يعبر عن ثقته الكاملة بقدرة دونالد ترامب على أن يكون رئيسا للولايات المتحدة الامريكية. إن ترامب رئيس منذ اربعة اشهر، لكن بصعوبة. وقد نجح في التصادم مع كل العالم. فقد قام باقالة رئيس الـ اف.بي.آي في الوقت الاكثر سوء وبشكل أزعر، رغم أنه مدين له بانتصاره في الانتخابات. وتحول البيت الابيض الى قسم مغلق، ومقارنة بما يحدث هناك فإن مكتب رئيس الحكومة في القدس والمنزل في بلفور هي اماكن عقلانية ومنطقية. الانطباع هو أن ترامب يحاول الاستمرار في «المختص»، وهو برنامج واقعي قام بعرضه في التلفاز بعد توليه منصبه الجديد ايضا. لو كانت فترة تدريبه في البيت الابيض تقاس بالمعايير التي قاس بها منافسو «المختص»، لكان ترامب سمع منذ فترة كلمة «أنت مُقال» وتم القاؤه في الشارع. وفي نهاية المطاف قد يحدث ذلك. الآن يتحدثون عن قضية «ووتر غيت» جديدة في سياق محاولة ترامب اقناع رئيس الـ اف.بي.آي جيمس كومي الغاء التحقيق ضد مايكل فلين، مستشار الامن القومي السابق. هذا يعتبر تشويشا للتحقيق. واذا ذهب كومي حتى النهاية فقد تكون هذه هي النهاية. عدد كبير من اعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين خرجوا من الخزانة التي اختبأوا فيها منذ الانتخابات. وكلمة «اقالة» بدأت تظهر في الاسبوع الماضي وتطفو فوق المياه الضحلة التي يغرق فيها البيت الابيض منذ دخول الملياردير الغريب الى المكتب البيضوي. وفي مركز كل ذلك سيهبط عندنا. هذا اذا جاء، لأنه لدى ترامب كل شيء يمكن أن يحدث أو لا يحدث.

ملاحظة تحذير

الحقيقة هي أن نتنياهو ايضا هو بطة عرجاء. فمن هذه الناحية، بدل حائط المبكى أو متسادا، فإن المكان الافضل للقائهما هو اغمون هحولا، وهو المكان المناسب لالتقاء البط. المقارنة مع ترامب هي اجحاف بحق نتنياهو، وأمام الجنجي الغريب فإن بيبي هو شخص مسؤول وحذر.

على الرغم من أن نتنياهو يعرف خطورة وضعه في غرف التحقيق في لاهف 433، إلا أنه ينجح في الحفاظ على صورة الزعيم الذي لم تتضعضع مكانته والذي لا يوجد أحد غيره. اوليفر في أرض الاقزام. إنه يتجاهل حقيقة أنه من وراء ظهره توجد ساحة سياسية في مرحلة متقدمة من الاستعداد لتوصية الشرطة تقديم لائحة اتهام في ملف ألف (أيضا ملف ألفين قد يؤدي الى تحطيمه). سبب عناق نتنياهو للجميع في الاسابيع الاخيرة هو التقدم في التحقيق. فهو يريد أن يكون الجميع راضون وهادئون ومرتاحون. ومن وراء ظهره هم ليسوا كذلك. الحراك في الساحة السياسية ظاهر، والجميع يتصارعون من اجل الوصول الى مكان جيد تحت السلة. النظرية العامة هي أن نتنياهو هو رئيس حكومة مع تاريخ انتهاء للصلاحية. رغم أن التاريخ ليس واضحا بعد، وهو يتعلق بالتصميم الذي سيبديه المستشار القانوني للحكومة افيحاي مندلبليت. وحتى الوقت الحالي لا يظهر أي تصميم. خلال كل ذلك جاء التسريب. يوجد لنتنياهو ايضا سيرة فاخرة في هذا المجال. بدءا بوثيقة شتاوبر التي سربها من فوق منصة الكنيست ومرورا بزلات اللسان التي يتم منع نشرها حتى الآن من قبل الرقابة وانتهاء بلافتة احتلال غزة التي سربها اثناء جلسة الكابنت اثناء الحرب. الحادثة التي في اطارها سرب ترامب لروسيا معلومات استخبارية حساسة، وصلت من الإسرائيليين، تنتمي الى تصنيف مختلف تماما، له امكانية على زعزعة نسيج العلاقة والتعاون الاستخباري الحساس والحيوي بين إسرائيل والولايات المتحدة في الوقت الاسوأ. التعاون الاستخباري بين إسرائيل والولايات المتحدة تراجع خطوة في المراحل الاخيرة من المفاوضات بين ايران والقوى العظمى، حيث وجدت إسرائيل والولايات المتحدة نفسيهما، لاول مرة، على طرفي المتراس المتناقضين. ايضا بعد التوقيع على الاتفاق لم يعد الوضع الى سابق عهده. والحال تغير بعد مغادرة اوباما ودخول ترامب. وبإلهام من الرئيس الجديد تسلق التعاون الحميم بين اذرع الاستخبارات الى ارتفاعات جديدة. ولكن كانت هناك ملاحظة تحذير هي نجمة متواضعة باللون الاحمر، سرية جدا، ومتعلقة بشخصية الرئيس. ترامب لا يسيطر على صوته أو على حسابه في تويتر. وبين بطنه ولسانه ليست هناك فلاتر معينة. وتغريداته تصيبه بالجنون وليس هناك أحد يمكنه وقفها. يمكنك أن تحدثه عن استنتاجات العميل الاهم في داعش، وأن تجد أنه قام بنشر ذلك للملايين في تويتر في اليوم التالي. هذا السيناريو كان في الاسبوع الماضي سيبدو خياليا، إلا أنه اصبح الآن واقعيا.

في كل ما يتعلق بالاستخبارات في هذا المستوى، فإن ما هو خفي أكثر من المعروف. المعلومات محدودة وألعاب «العكس بالعكس» كثيرة. سنحاول في هذا المقال التركيز على الحقائق التي تم فحصها: إسرائيل تعتمد على الاستخبارات الامريكية اكثر من اعتماد امريكا على الاستخبارات الإسرائيلية. لدينا تفوق موضعي في مجالات معينة (سوريا وايران)، ولا سيما في مجال «اليومنت» (الاستخبارات التي مصدرها عملاء داعش). ولدى الامريكيين افضلية كبيرة في التكنولوجيا والادوات التي توجد فقط لدى القوة العظمى. الاقمار الصناعية والتنصت الامريكي كبير، ولا مثيل له في العالم. لهذا لا تستطيع إسرائيل «معاقبة» الامريكيين بسبب عدم مسؤولية الرئيس. ولم نتحدث بعد عن الامور الاخرى التي تطلبها وتحصل عليها إسرائيل من الولايات المتحدة.

اضافة الى ذلك، يحظر التقليل من شأن الاستخبارات الإسرائيلية، لا سيما في كل ما يتعلق بغابة الشرق الاوسط، مع التشديد على الحرب السورية. في هذا المجال إسرائيل لها تفوق على كل العالم. «نحن نحصل على المعلومات الاستخبارية منكم أكثر من المعلومات التي نحصل عليها من جميع حلفائنا معا»، هذا ما قاله مسؤولون امريكيون لنظرائهم الإسرائيليين في اللقاءات. قدمت إسرائيل مؤخرا للولايات المتحدة، وفي مناسبات كثيرة، معلومات حيوية لم تكن لديها. ويمكن القول بيقين إن الاستخبارات الإسرائيلية انقذت حياة الكثير من الجنود والمواطنين الامريكيين، وأحبطت عمليات ارهابية كثيرة. في هذا المجال يوجد «دين» امريكي لإسرائيل يعترف به الطرفين. مشكلة اذرع الاستخبارات الامريكية هي أنها لا تسيطر على فم القائد، أي الرئيس. ومشكلة اخرى هي طبيعة المؤسسات المربعة في واشنطن، الامر الذي لا يسمح لرؤساء الاجهزة الاستخبارية بـ «سرقة الخيول» مع النظراء الإسرائيليين والرقابة على تفاصيل حيوية قبل اعطاء التقارير للاشقر في المكتب البيضوي. الامريكيون يعملون حسب الكتاب، جميعهم باستثناء الرئيس.

إسرائيل تتقاسم المعلومات الاستخبارية مع دول اخرى، بما في ذلك روسيا. ولكن مع الولايات المتحدة هناك انفتاح كامل، فقط أمام الامريكيين الحديث يدور عن المعلومات الاستخبارية الخام، فقط أمام الامريكيين يتم كشف المصادر احيانا. الامريكيون يحبون المصادر الاستخبارية ويضغطون على إسرائيل كثيرا من اجل معرفة «من أين جاءت المواد». نحن نحتاج الى اتخاذ قرارات صعبة في هذا المجال. طالما أن الامر يتعلق برؤساء الاجهزة الاستخبارية في إسرائيل فإن كشف المصادر سيتوقف أو سيتضاءل. ولكن القرار سيتم اتخاذه في القدس. فهناك يتم قياس الامر من زاوية مختلفة تماما. على رئيس الحكومة فحص الصورة بشكل كامل، التي هي ليست معلومات استخبارية فقط، لذلك فإن نتنياهو يصمت حاليا، أما ليبرمان فيقوم بخفض شدة اللهب. بيبي سيحاول الآن الاستفادة من الاخفاق الامريكي، والحصول على انجازات سياسية. ومشكوك فيه أن ينجح. ليبرمان، بصفته بالغا ومسؤولا ويعرف ميزان القوى عن قرب، يفضل انهاء الامر وعدم تحويله الى قصة كبيرة. «يمكن استيعاب هذه القصة»، يقول في المحادثات المغلقة. والسؤال هو اذا كان لنا خيار آخر. والاجابة كما يبدو سلبية.

السموتريتشيين

لم نتحدث بعد عن الفوضى الخاصة بزيارة الرئيس الامريكي في الاسبوع القادم. هناك محاولة من قبل نتنياهو للسير وراء ترامب في كل مكان وموقع. وتنصل ترامب منه. ربع ساعة مهينة في «يد واسم». التردد والتنصل حول السيادة على الحائط الغربي. الانهيار الكامل والنهائي لاعتبار دونالد ترامب مُخلص اليمين في إسرائيل. تبخر الوعود المختلفة وعلى رأسها نقل السفارة الامريكية من تل ابيب الى القدس. الموت التراجيدي والسريع لاعلان انتهاء حقبة «حل الدولتين». وانتفاخ «حقبة الضم».

في هذه الصحيفة ظهرت قبل بضعة اسابيع التقديرات التي أفادت بأن السفارة الامريكية لن تنتقل الى القدس. وهذا لم يزعج الصحفيين من اليمين من الاستمرار في الحلم وبث التفاؤل المسيحاني واعداد الابواق لوصول المخلص. لكن المخلص لم يأت. ونتنياهو يشتاق منذ زمن لاوباما، أو على الأقل لهيلاري كلينتون، التي كان يعرف معها بالضبط ما هو نعم وما هو لا. لدى الرؤساء الامريكيين العاديين توجد حدود واضحة، ويوجد توازن وكوابح. وهناك «الايباك» وصندوق الادوات الواضح الذي يسمح بادارة العلاقات والاختلافات، مثلما كان في ولاية اوباما. لدى ترامب لا يوجد أي شيء باستثناء التغريدات الكاذبة في تويتر وزلات اللسان المدمرة والوعود التي لا تنفذ. لذلك عندما اشتكى بتسلئيل سموتريتش في الاسبوع الماضي من اليساريين في تويتر، فكأنما نبح على الشجرة غير الصحيحة. سموتريتش مثل باقي اليمين وأنبياءه حدّث نفسه بقصة وصدقها. أنا لا استطيع التحدث بلسان اليسار لأنني لست كذلك، لكنني استطيع القول إن كل من يعرف الساحة الامريكية والدولية يعرف الحقيقة، وكل من فكر بشكل مختلف حاول اغتصاب الخارطة.

الوضع هو التالي: لا يوجد رئيس امريكي يستطيع تحويل السياسة الأبدية للولايات المتحدة تجاه يهودا والسامرة والمستوطنات. كلما مر الوقت كلما تأكد ذلك أكثر. تأثير اليهود في امريكا لا يزداد بل يضعف. واذا لم يكن هذا ترامب، فلن يكون أحد غيره. اضافة الى ذلك، الرئيس ترامب هو بشرى سيئة، ليس فقط لليمين، بل ايضا لليسار والوسط في إسرائيل. «امريكا ستتجاوز ترامب»، قال لي في هذا الاسبوع شخص عمل في الاجهزة الامنية الامريكية في مستوى رفيع.

«امريكا هي دولة عظمى لديها حيز من الامن ومكان للاخطاء الكبيرة. والسؤال هو هل سنتجاوز نحن ذلك؟».

يوجد لنتنياهو ايضا مهمة غير سهلة للبقاء أمام ترامب. لأنه من الواضح عدم امكانية التوصل الى الصفقة بين إسرائيل والفلسطينيين، وبشكل سريع سنصل الى لعبة الاتهامات، حيث سيحاول الطرفان القاء المسؤولية عن الفشل على بعضهما البعض من اجل التملص من غضب ترامب. هذه اللعبة هي لعبة خطيرة، ومن اجل الانتصار فيها سيضطر نتنياهو الى البرهان على أنه مستعد لأن يعطي والذهاب في صالح أبو مازن وتليين مواقفه، لكن الفلسطينيين هربوا كالعادة. واذا فعل نتنياهو ذلك فسيتسلق عليه نفتالي بينيت من اليمن، واذا لم يفعل ذلك فقد يقضي عليه ترامب من اليسار. إما أن يقولوا إنه يتخاصم مع كل رئيس امريكي، أو يقولون إنه يفقد رزقه. هذا هو السبب في أنه رغم سلوك نتنياهو في الآونة الأخيرة وكأن الانتخابات ستجري في موعدها، الوضع بعيد عن ذلك. وخلافا للاسفين الذي تم نشره والذي أمر فيه رئيس قسم الميزانيات باعداد ميزانية العام 2019، فإن الفحص في القسم يبرهن على أنه لا يوجد أمر كهذا.

بعد كل ذلك يجب علينا أن نضيف: اذا قام ترامب بتغيير السياسة الامريكية تجاه ايران بالافعال وليس بالاقوال، فإن هذا أهم من موضوع البناء في المستوطنات التي توجد حاليا في حالة تجميد عميقة. واذا استمر ترامب في استخدام قبضته العسكرية القوية ضد جنون الشرق الاوسط، مثل ضربة «توما هوك»، فهذا جيد. المشكلة مع ترامب هي أنك لا تعرف اذا كان سيواصل ما بدأه، أو سيبدأ بما سيواصله. عدم وجود اليقين ليس فقط لدى حلفاء امريكا، بل ايضا في اوساط المقربين منه، اولئك الذين تمت اقالتهم واولئك الذين لم تتم اقالتهم بعد.

معاريف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى