كما تكونوا يولى عليكم: يغئال عيلام
لقول الحكيم “وجه الجيل كوجه الكلب” كانت عدة تفسيرات. منها جميعها يعجبني ذاك الذي يشبه الزعيم الذي يقود شعبه، بالكلب الذي يركض امام أسياده، ولكنه ينظر دوما الى الخلف كي يتأكد من أن هذا بالفعل هو الاتجاه الذي يرغب فيه السيد الماسك للحبل ان يسير فيه. تفسير آخر يتحدث عن الوقاحة والجسارة اللتين تنتشران في الشعب، مثل السلوك الغريزي للكلب. واذا ما جمعنا التفسيرين نحصل على تفسير يفيد بان لكل جيل زعماء يعكسون وجهه. للزعامة بحد ذاتها تأثير محدود على سير الامور. في افضل احوالها هي كفيلة بان توفر الالهام والاحساس بالامن للجمهور، ولكن الدور الاعظم الذي يعزى للزعيم في صناعة التاريخ لا يوجد الا في خيال الجماهير. اليهم ينضم بشكل عام المؤرخون، الذين من المريح لهم السير في اعقاب الجمهور وتعليق كل فعل كبير برقبة الزعيم العظيم.
الزعماء العظام يعرفون بشكل عام ما هي قيمتهم ووزنهم التاريخي حقا. دافيد بن غوريون حرص دوما على نفي الدور الخيالي الذي أولاه له المؤرخون بالتقدير عن اعلان الدولة. وينستون تشرتشل في احتفال النصر الذي اجري على شرفه في نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي وصفوه فيه بانه “اسد بريطانيا” كان يعدل عليهم ويقول: “الاسد هو أنتم، الشعب البريطاني؛ اما انا فلم أكن سوى الزئير”.
صورة الزعامة اليوم، في اسرائيل وفي العالم الغربي، بشعة وشوهاء. فهي تعكس الحرج والتشوش السائدين في الساحة الاجتماعية وفي الساحة السياسية في ضوء التغييرات الهائلة التي تجري في اطار سياقين ثوريين: العولمة، وثورة المعلومات. مقلق بقدر لا يقل هو تشقق بنية المفاهيم، التي تقف عليها الثقافة الحديثة بينما الاكاديميا والمثقفون يتسلون ببدائل فارغة وعديمة المعنى وتسمى “ما بعد الحداثة” و “ما بعد الحقيقة”.
في مثل هذه الازمنة لا يشعر الجمهور بالثقة بالمؤسسة القائمة وهو يفضل السير خلف الزعماء الذين يطلقون ليس بالذات اقوال الحقيقة بل اقوالا بسيطة وقاطعة، ومرغوب فيه أن تكون هذه ذات رنة مضادة للمؤسسة. هذه هي اللحظة المناسبة للديماغوجيين.
الديماغوجية في اوروبا وفي الولايات المتحدة تتخذ وجه القومية المتطرفة. في القرن التاسع عشر وحتى النصف الاول من القرن العشرين، كانت القومية المتطرفة تحمل علم الحداثة وتحرير الشعوب. اما اليوم فهي الملجأ الاساس للجماهير الذين هم عرضة للمعلومات والعولمة. فالجماهير المهددة يصطفون في صفوف ولهذا فلا يوجد بوق أكثر فاعلية من بوق القومية المتطرفة. ولكن حذار ان نقع في الخطأ: ايام القومية المتطرفة محدودة. فمن كل ناحية عملية حاسمة ليس للقومية المتطرفة اي معنى. اما الاقتصاد، العلم والتكنولوجيا فهن القادرات الاساس للعولمة.
في اسرائيل ايضا يوجد للديماغوجية وجه قومي متطرف، وبطبيعتها فانها تتخذ ايضا طابعا مناهضا للمؤسسة الرسمية. ولكن مشوقة حقيقة أن “المؤسسة” في اسرائيل لا تتماثل مع الحكم الحالي، بل مع الحزب الذي كان في الحزب حتى قبل اربعين سنة – العمل او “اليسار. الكثيرون يربطون هذا بالرواسب التي لا يزال يحملها معهم ابناء المهاجرين من بلدان الشرق، على خلفية سياقات الاستيعاب القاسية والصدمة الثقافية التي اجتازتها عائلاتهم تحت حكم مباي. توجد امور في الخلفية، ولكن الذنب الاساس لم يكن في مباي، بل في الصهيونية ذاتها. فقد بنيت هذه دوما من تبرعات المهاجرين الجدد ترافقها معاناة وضائقة لم يتم التعاطي معها الا كمادة يعالجها المنتج. وكان هناك فرق هائل بين معاناة اولئك الذين رأوا في الهجرة والاستيطان عملا طبيعيا، اختيارا، وبين اولئك الذين علقوا هنا في ثقافة مختلفة ليس باختيارهم.
ان الكراهية المرضية لحركة العمل وللاشكناز الغربيين، والتي تسود ايضا في اوساط المثقفين من أصل شرقي ممن ينخرطون جيدا في النخبة الاسرائيلية، لا تدل الا على عدم الثقة التي ترافق انجازات سليلي البلدان الشرقية، حتى في اعلى القمة، وكأن بهم يسبحون في مياه ليست لهم. لم يعد موضوع هذه الكراهية موجودا أو ليس له اهمية، ولكن جذوره التاريخية على ما يبدو لا يمكن ابتلاعها بسهولة. فالكراهية تؤدي دورا حيويا في رص الصفوف في اثناء الازمة الثقافية، كتلك التي يشهدها المجتمع الاسرائيلي اليوم. فاليهودية والصهيونية اصبحتا كليشيهات منبوذة ولم تعد تحث الناس على العمل الايجابي. فما هي اليهودية في العصر العلماني، ما هي الصهيونية في العصر الاسرائيلي.
معظم التفسيرات لصعود اليمين ومواصلته الحكم على مدى عشرات السنين لا تنزل الى جذور الامور. فليس تعالي النخب وليس تجاهل الثقافة الشرقية هما اللذان أديا الى افول اليسار. ولا حتى التمييز والاهمال الاجتماعي. تعالوا نعترف بالحقيقة: هذا الشعب كان يمينيا في اساسه. فمنذ البداية كان يتبنى فكرا يقول انه شعب مختار، وحيد وفريد، لا تنطبق عليه القواعد الانسانية العامة. وفقط في الازمنة القاسية عندما كان اقلية تمسك بالفكر اليسار، الكوني في جوهره، كي ينال الدعم في العالم المتنور ويضمن بقاءه. لهذا السبب بحث اليهود في المنفى، في الزمن الحديث، عن سند في حركات اليسار الليبرالية. الصهيونية هي الاخرى، في كفاحها لاقامة الوطن القومي في بلاد اسرائيل، فضلت قيادة اليسار، مثلما مثلتها في حينه حركة العمل.
ان الدعوات التي توجه اليوم الى معسكر اليسار، لبذل كل جهد من أجل استعادة الحكم، بل ومغازلة الشعب بكل وسيلة ممكنة، هي دعوات مثيرة للشفقة. فما المعنى من تغيير القيادة الحالية، اذا كانت مناسبة لهذا الشعب في هذا الزمن بتطابق تام؟ وما المعنى اذا كنت لهذا الغرض مطالبا بان تتخفى في زي اليمين وتتبنى السياسة أو انعدام السياسة التي تتميز بها حكومة اليمين القائمة؟ اليمين يفعل هذا بطريق مباشر وطبيعي، اما اليسار فلن ينجح ابدا في ان يمثل اليمين بمصداقية اعلى من اليمين القائم.
رجال الوسط المتخفين وحدهم، مثيل يائير لبيد ورفاقه ينجحون حاليا في تقديم عرض كاذب في الطريق الى الحكم، ولكن في نهاية المسيرة، مهما كانت ناجحة سيتبين بان العرض الكاذب أقوى ممن يمثلوه: فهم سيبقون حبيسين في قناعهم اليميني، سيواصلون الكركرة كاليمين والثرثرة كاليمين، حتى وإن طالبوا بأجر كالوسط. سيبقون ذوي هوية مشوشة، هي هويتهم الحقيقية وبفضل ذلك لعلهم يثبتون بالفعل انهم اكثر ملاءمة للقيادة المزعومة للطريق الحالي، جيل مشوه.
هآرتس