ترامب في قبضة الدولة العميقة
غالب قنديل
حركت مناسبة انقضاء مئة يوم على وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض سلسة من المناقشات حول سلوك الإدارة الجديدة ومسارها على صعيد السياسة الخارجية بينما انحصر حصادها الداخلي في مراكمة قرارات رئاسية مكرسة “لإزالة آثار باراك اوباما ” في مجالات الضمان الاجتماعي والضرائب وسط تصفيق جمهوري كثيف وترحيب من الشركات المالية والمصرفية والاحتكارات الكبرى في الولايات المتحدة.
تظهر عقدة اوباما مباشرة في كل تصريح او خطاب للرئيس المتباهي بنزعته المحافظة على صعيد السياسة الاجتماعية والنظام الضريبي والذي تفرغ مؤخرا لاستعراض مواهبه الحربية مقارنة بسلفه الذي عارضت وزيرة خارجيته كلينتون تريثه وتردده في الاستجابة لدعوات حزب الحرب إلى غزو سورية والتصعيد في وجه روسيا والصين وإيران بكل وسيلة ممكنة.
تبنى المرشح ترامب خيار رفض الحروب في خطبه الانتخابية وأفرط في انتقاد غزوات دبليو بوش الفاشلة للعراق وأفغانستان وحرب اوباما بالواسطة في سورية كما هاجم سياسة دعم الأخوان المسلمين في مصر والغزو العسكري لليبيا .
اليوم يبدو الرئيس الأميركي وقد انقلب على نفسه ليتخذ قرارات متهورة في السياسة الخارجية تناقض وعوده الانتخابية في نسخة معدلة ومدمجة من هيلاري كلينتون وباراك اوباما ودبليو بوش وبصورة أشد تطرفا في الموقف من روسيا التي كان وعد في حملته بالتعاون والحوار معها بينما جرى مؤخرا تصعيد الحشود الأميركية الأطلسية في المحيط الروسي وتم تشديد العقوبات ضد موسكو وتوعد وزير الخارجية تليرسون بالمزيد وهو شخص آت من احتكارات النفط كان يعتبر صديق الرئيس فلاديمير بوتين في الإدارة الجديدة واعتبر المؤهل لنسج علاقة جديدة مع روسيا تختم فصول الحرب الباردة المشحونة التي صعدت في ولايتي دبليو بوش وأوباما.
على النقيض من كلامه الانتخابي اتخذ ترامب قرارات حربية فأمر بعدوان صاروخي على سورية واستكمل خرافة السلاح الكيماوي التي صنعها وأطلقها سلفه أوباما وشريكته هلاري في العدوان على سورية بينما لم تنه القمة التي عقدها ترامب مع الرئيس الصيني مناخ التوتر في العلاقة مع بكين وتحول التصعيد ضد كوريا الديمقراطية إلى ما يشبه حربا بالواسطة ضد الصين في قلب مجالها الحيوي.
المحافظون الجدد وجنرالات البنتاغون وأركان اللوبي الصهيوني بزعامة بنيامين نتنياهو باتوا هم الصانع الرئيسي لسياسات ترامب والواضح ان لب القضية هو تمكن الدولة العميقة من احتواء تمرد الرئيس على المؤسسة الحاكمة منذ إطاحة مستشاره للأمن القومي الجنرال مايكل فلين والتلويح بتحقيق يصل إلى ذقن الرئيس عن العلاقة المزعومة مع روسيا خلال الحملة الانتخابية ولا سيما بعد طلب فلين الحصانة ليدلي بمعلومات جديدة ومفصلة في القضية وهو ما كان يعبر عن صفقة ما عقدها عملاء الاستخبارات المركزية مع المستشار الذي هاله الاستغناء عنه في حالة ذعر من ضغط اللوبيات المتربصة لترويض الرئيس الذي كان خطابه الأول أقرب إلى البلاغ رقم واحد في انقلاب على المؤسسة الحاكمة ومجموعات الضغط او ما يمكن تسميته بالدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية.
ماذا تريد الدولة العميقة ؟ مجددا إنها عقيدة الهيمنة الأحادية الأميركية على العالم والتصدي للقوى المنافسة الصاعدة أي تحالف الصين وروسيا وإيران الذي فرض على الإدارة السابقة سلسلة تراجعات سياسية كما فرض على المرشح دونالد ترامب الاعتراف بتراجع مكانة الإمبراطورية الأميركية في العالم امام روسيا والصين مما اعتبره المنظر الاستراتيجي مايكل كلير اعترافا بأن الولايات المتحدة باتت في المرتبة الثالثة من حيث القوة.
حزب الحرب يلقي القبض مجددا على القرار الأميركي كما يستنتج وزير الخزانة السابق بول كريغ روبرتس الذي قدم في آخر مقالاته وصفا مشهديا للرئيس الذي يحيط به بنيامين نتنياهو وجنرالات البنتاغون المسعورين ويعطي الأمر بمهاجمة سورية ويروي ترامب للصحافة كيف تباهى بذلك القرار امام ضيفه الصيني وبعد ذلك خرج يوجه الإنذار العسكري إلى كوريا الشمالية مهددا بكارثة نووية بينما يواصل شد الخناق حول روسيا ويتغزل بشراكة الناتو التي نالت هجاءه القاسي من قبل ثم يعرب عن سعادته باستعادة حرارة التحالف مع المملكة السعودية ويطالب بالمزيد من الأموال مقابل تبني الأولويات السعودية في اليمن وسورية رغم ما حمله ووعد به الأمير الطامح إلى العرش من المليارات لدخول المكتب البيضاوي.
ختاما هذه وغيرها من التناقضات والمظاهر السياسية الأميركية ليست علامات اضطراب الشخصية عند الرئيس الأميركي التي يستغرق الصحافيون في توصيفها بل هي حاصل خضوع هذا الرئيس الأميركي للمؤسسة الحاكمة التي تحداها في إمبراطورية ذابلة ومتراجعة القدرة تجتاز مأزق التكيف مع المتغيرات العالمية الصادمة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا.