جوبر: متى ينضج قرار كسر الردع؟ عامر نعيم الياس
لم تشهد العاصمة دمشق وتحديداً أحياؤها الشرقية ما تتعرّض له هذه الأيام من هجمات إرهابية منسقة منذ نهاية العام 2013، يومها بادر الجيش السوري والقوات الرديفة إلى شنّ عملية عسكرية واسعة هزّت أركان شرق العاصمة أملاً بإنهاء حالة جوبر التي باتت رمزاً لسلسلة مرتبطة من البؤر الإرهابية المحيطة بشرق دمشق ومدخلها الشمالي كالطوق، من دوما إلى حرستا، فالقرى الصغيرة والمزارع في الغوطة الشرقية، مروراً ببرزة والقابون، وليس انتهاءً بعربين وزملكا وعين ترما وسقبا وجوبر التي تعدّ أقرب نقطة إلى ساحة العباسيين التي تشكل مركز أهمّ أحياء شرق العاصمة التجارة، القصور، شارع فارس الخوري، العدوي، القصاع، باب توما، باب شرقي، الزبلطاني أحياء المسافات بينها وبين الساحة تكاد تكون متماثلة إلى حدّ ما.
في آب من عام 2013 قامت الدنيا على هجوم الجيش السوري على الغوطة الشرقية وفي محور جوبر تحديداً، ولوّح بضرب العاصمة دمشق والبنى التحتية بشكل مباشر من قبل الجيش الأميركي، وكان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في الإليزيه ينتظر أمر العمليات، إلا أن تسوية حصلت بشأن الأسلحة الكيميائية السورية بين واشطن وموسكو ورضخ العالم أجمع، مسلّماً ببدء مرحلة مختلفة من مقاربة الملف السوري دولياً.
هدأت العاصمة منذ ذلك الوقت، فيما الخطوط الحمر باتت أكثر تجذّراً، لم يجرؤ الكثر عن التحدّث عن توازن رعب يحيط بدمشق وأحيائها من جهة الشرق تحديداً، لكن الواقع كان يؤكد لك يوماً بعد يوم، ربما آخر تجلياته ما تمّ التوصل إليه قبل حوالى عشرة أيام برعاية روسية «وقف الهجوم على الغوطة الشرقية، مقابل وقف استهداف الأحياء الشرقية للعاصمة بالهاون»، لكن الاتفاق سقط وسقط معه «وقف العمليات القتالية» في محيط العاصمة دمشق، فالمعركة التي تخاض حالياً تحت لواء «فيلق الرحمن» و«هيئة تحرير الشام» أيّ جبهة النصرة، ليست «خرقاً للهدنة!» بل استطاعت أن ترفع من منسوب الإرهاب المسلّط على أحياء شرق العاصمة، دون أن يعني ذلك وجود أيّ قدرة على احتلال دمشق، أو تغيير التوازن الميداني فيها، فالعاصمة منيعة وتختلف حساباتها عن أيّ منطقة أخرى في سورية، وهذه الحسابات هي ذاتها التي تجعل صدى أيّ حدث في العاصمة مختلفاً عن صداه في المدن الأخرى، فعلى الرغم من أنّ الهجوم الحالي للإرهابيين على الجزء الشرقي ليس بقوّة ما كان يجري على جبهات حلب المختلفة من الزهراء إلى بني زيد وإرهابيّيه، لكن ما حدث أنهى حالة الهدوء، وعكس احتفاظ إرهابيّي جوبر والقابون وبرزة وغيرهم بقدرتهم على التشويش والإرباك، وحتى إحداث بعض الخروقات البسيطة هنا أو هناك، هذا بطبيعة الأحوال ليس بالأمر الذي يتوجّب إهماله تحت أيّ حجة ومن أيّ نوع.
إنّ صمت «جيش الإسلام» المشارك في أستانة عما يجري، لا يعني عدم اشتراكه به، فالإدارة الأميركية السابقة على لسان وزير خارجيتها جون كيري اعترفت بالسكوت عن ممارسات داعش في سورية أملاً بزعزعة استقرار «النظام» ودفعه إلى تقديم تنازلات في الملف السياسي، كما تجدر الإشارة ايضاً إلى أنّ «فيلق الرحمن» يعتبر أحد أذرع غرفة عمليات «الموك» المرتبطة بالجبهة الجنوبية التي تشهد هي الأخرى من جهة الحدود مع الأردن ومع فلسطين المحتلة نشاطاً متزايداً استخبارياً وعسكرياً، وحتى تدخلاً مباشراً من جانب الكيان الصهيوني في سورية، هذا فضلاً عن أنّ التغطية الإعلامية لوسائل الإعلام التابعة لدول الخليج، وحتى تلك الغربية، تشير إلى أن لا وجود لأيّ تغيير في السياسات الإعلامية المعتمدة، وأنّ الرهان على الإرهاب في سورية وفي محيط دمشق، هو رهان مبدئي له أولوية على أيّ شيء آخر، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات في مقدّمها: كيف سيكون شكل الردّ من جانب الدولة السورية والحلفاء؟ هل يكتفى بمعالجة نقاط الخرق؟ أم أنّ ما جرى يعدّ بمثابة تحوّل يستوجب المضيّ قدماً في العملية العسكرية في جوبر، وبرزة والقابون والوصول إلى النهايات؟ هل الخوف على سكان الأحياء الشرقية هو ما يدفع لإبقاء توازن الردع هذا؟ ألم يؤثّر ما حصل خلال اليومين الماضيين على معنويات سكان شرق العاصمة؟ هل دمشق هي من المدن التي تحتمل في لعبة السياسة مفاهيم من قبيل، شرق وغرب؟
نشرت «ليبيراسيون» الفرنسية هذا الأسبوع تقريراً تحدّثت فيه عن «خفايا سقوط حلب» وأشارت في مقابلة مع قادة للميليشيات الإرهابية المسلحة إلى ما مفاده أنّ «الروس والأتراك هدّدوا المسلحين في شرق حلب بوجوب إخلائها، كون لا سبيل للمقاومة، وإنْ حصلت، فإنّ تركيا لن تستقبل ما تبقى من المسلحين، بل سيترَكون للإبادة الكاملة»، ونقلت الصحيفة عن مسؤول تركي قوله «إنّ القرار الروسي باستعادة الأحياء الشرقية لحلب كان واضحاً». إنّ ما سبق معطوفاً على ما حصل في آب من عام 2013، يعكس عدة حقائق أبرزها:
ـ أنّ قرار استعادة جوبر وسلسلة المدن المرتبطة بها ليس قراراً تتحمل مسؤوليته الدولة السورية وحدها. والتأخير في هذا الأمر ليس مردّه إلى قرار القيادة العسكرية في سورية، بل إنّ قرار استعادة هذا الحي متّخذ من العام 2013.
ـ إنّ الحسم في شرق العاصمة بحاجة إلى قرار لا رجعة عنه بالمضيّ مدعوماً من الحلفاء وخاصةً روسيا، تماماً كما حصل في حلب، وهنا تتراجع حيثية التفاوض مع الإقليم، كما حصل مع تركيا، إلى الحدود الدنيا في ضوء الغيبوبة السعودية، والعجز الأردني، والقرار الصهيوني بالقتال حتى إلى جانب داعش كما حصل في الاعتداء الصهيوني على مواقع قرب تدمر.
ـ التصعيد جاء بعد زيارة ولي ولي العهد السعودي إلى الولايات المتّحدة، وفي ظلّ مقاطعة وفد المجموعات المسلحة لاجتماعات أستانة، وهو أمر يثير تساؤلات حول مدى تقيّد هذه الجماعات بالتزاماتها، ومدى الرهان على وجود تغييرات في سياسة الإدارة الأميركية من سورية. ربما قد يكون ترامب أعطى محمد بن سلمان فرصة لتجربة أخيرة في محيط دمشق، من أجل تجيير أيّ إنجاز على هذه الجبهة في عملية التفاوض المنوي خوضها مع الروس سواء ضمن أطر جنيف العلنية، أو أيّ إطار آخر.
ـ إنّ نجاح الجيش السوري في احتواء الهجمات الإرهابية الأخيرة يفسح في المجال لاستمرار استنزاف المسلحين عبر هذا المحور، والرهان على الخلافات بين الفصائل المتواجدة في الغوطة الشرقية وأحياء محيط دمشق، لكن في ظلّ بقاء هذا الردع المتبادل، فهل هذا هو السيناريو الأفضل؟
لا تبدو التجربة التي تعيشها دمشق، وبعد ست سنوات من الحرب، تجربةً يجدر استمرارها، وربما يجب الاعتراف أنّ رغبة الجميع دون استثناء، بمن فيهم أطفال أحياء شرق دمشق، رؤية طلائع الجيش السوري داخل حي جوبر، ويتقدّمون دون توقف للقضاء على البؤر الإرهابية وصولاً إلى دوما، فاستمرار هذا التوازن والتعايش معه سيرتّب آثاراً جديدة لا تبدو الظروف مواتية للرهان عليها وعلى عامل الوقت في التعامل معها.
(البناء)