سرقة خزنة السي آي ايه د.منذر سليمان
في ظل حمأة الصراع الداخلي الاميركي، بين مؤسسة الرئاسة واجهزة الاستخبارات المتعددة، اسدل الستار عن درة الاستخبارات الاميركية بنشر “ويكيليكس” معلومات بالغة السرية مصدرها ترسانة وكالة الاستخبارات المركزية لا تتعلق باطراف دولية اخرى، كما في السابق، بل في صميم عمل الوكالة بانتهاك حريات الآخرين، دولاً ومواطنين والتأثير في مستقبلها، ومخططات تخريب وتدمير حرصت على التنصل منها .
أهمية مضمون الوثائق تفوق عديد صفحاتها، زهاء 8000 وثيقة، التي كشفت بالدليل الملموس، لمن كان ينقصه الدليل، عن برامج قرصنة متعددة داخل “الخزنة رقم 7،” تعرف كمجموعة بـ “السنة الصفرية” وتتبع جهاز بالغ السرية داخل مقر الوكالة؛ تناولت الفترة الممتدة بين اعوام 2013-2016. تضم مجموعة القرصنة طاقم كبير من الاخصائيين ينوف عن 5000 عنصر “انتج اكثر من 1000 نظام قرصنة واحصنة طروادة وفيروسات” وغيرها من البرامج الخبيثة.
تدابير التحكم في ظل النظام العالمي الجديد
اضطرت الوكالة للاقرار بأن “بعض” الوثائق “تبدو أصلية،” لتبديد القلق العام من تداعيات نشر “ويكيليكس” لبرامج الكمبيوتر المفصلة والدقيقة، وفق تعهد ابرز مسؤول فيها، جوليان اسانج. وشدد أسانج على ان طواقم “ويكيليكس” لم يتسنى لها اتمام جهود التدقيق والتحقق من مضمونها، مناشدا كل المهتمين حول العالم القيام بذلك والاستفادة المشتركة بعد ان وضعت قيد التداول العام.
البارز في وثائق الوكالة خلوها من اي ذكر لمكافحة او استهداف للارهاب. واوضحت “ويكيليكس” في بيان اصدرته ان سيل البرامج الضارة والخبيثة “كانت متوفرة لدى مجموعة (منتقاة) عملت مع الادارة الاميركية السابقة .. ومصدرها أحد هؤلاء الافراد الذي وفر لويكيليكس جزءا من الارشيف.”
اخصائيو البرمجة المتعددة اعتبروا ان كنزا هائلا وقع بين ايديهم ليس في كشف ما تختزنه مخططات الوكالة من استراتيجيات هدفها الاساس الحاق الضرر بالخصوم والاعوان فحسب، بل لما توفره لهم من تقنيات مماثلة وسبل التغلب بل التفوق عليها. وهنا مربط الفرس بالنسبة للوكالة: اضحت اجراءاتها وبرامجها مكشوفة ومخترقة في آن واحد. بل تضعضعت ثقة الشعب الاميركي بهالة الوكالة التي تحرص على تقديم نفسها في ابهى وانقى الصور، وتبديد المخاوف من تدفق المخصصات المالية العلنية والسرية عليها.
قلة ممن اتيح لها الاطلاع على تفاصيل الوثائق اوضحت انها “اشمل” مما وفره المتعاقد السابق في وكالة الأمن الوطني، ادوارد سنودن، من كنز استخباراتي احدث هزة وارتجاجات في عموم العالم، والتي لا تزال تردداتها قائمة، ضد القرصنة الاميركية على رؤساء دول وحكومات ومؤسسات ومواطنين عبر العالم.
تجدر الاشارة الى ان استحداث هيئات مكافحة القرصنة الالكترونية في اربعة اجهزة استخبارات، من مجموع 17 جهازا مستقلا، لم يعرف من بينها وكالة الاستخبارات المركزية. وبرز سيل من الاسئلة والانتقادات حول امتلاك الوكالة لهيئة مختصة بمكافحة القرصنة الالكترونية باستقلالية تامة عن نظيراتها، سيما وان تلك المهام تندرج ضمن مسؤولية وسلطة وكالة الأمن الوطني بالدرجة الاولى.
بعض خبراء الأمن الالكتروني يرجحون مبرر الوكالة انتاج البرامج الخبيثة في سياق استغلال “شعبية” الاهتمام بتلك المسألة وجهوزية اعضاء الكونغرس المصادقة على ميزانيات اضافية بهذا الخصوص طمعا في نصيب اضافي لها. واضافوا ان وكالة الاستخبارات “فقدت” السيطرة على معظم مخزونها من تقنيات القرصنة، بما فيها انظمة التحكم عن بعد بالبرامج الضارة والخبيثة.
توقيت التسريب وصدقيته ادت لتآكل صورة وسردية الوكالة في الوعي الجمعي، خاصة لجهاز يتحلى باقصى درجات السرية والنأي ونفي المسؤولية. بعضهم حمل مدير الوكالة، جون برينان، بعض المسؤولية لسعيه استقطاب عناصر بشرية جديدة بسرعة مما ادى “لتقليص” المتطلبات والكفاءات المطلوبة بالتزامن مع استحداث اجهزة وهيئات تخص مكافحة القرصنة الالكترونية.
من ضمن ما “فضحته” الوثائق الاخيرة تضافر جهود وكالتي الاستخبارات المركزية والأمن الوطني الاميركيتين في شن عمليات قرصنة واسعة النطاق “من داخل مبنى القنصلية الاميركية في مدينة فرانكفورت” بالمانيا.
التسريبات الاخيرة عززت ايضا عوامل قلق المواطن الاميركي لما بينته من جهود حثيثة للتجسس الداخلي “الممنوع قانونيا؛” خاصة فيما برز من امكانيات تحكم الوكالة بالسيارات الحديثة عن بعد وما ثبت من “حوادث سيارات” لم يتم التحقيق بها، ناهيك عن الجزء البارز من قرصنة الهواتف الشخصية.
يشار في هذا الصدد الى حادثة مقتل مراسل اسبوعية رولينغ ستون، مايكل هيستينغ، حزيران 2013، عبر التحكم بسرعة سيارته لتصل نحو 100 ميل/ساعة قبل انفجارها. خضع المراسل لمتابعة الاجهزة الاستخباراتية نتيجة عمله الاستقصائي للكشف عن “تجاوزات” الاجهزة الاستخباراتية وميلها لارتكاب الجرائم دون رادع.
في نشرة يومية يشرف عليها ضباط استخبارات سابقون ذي سايفر بريف جَهِد اولئك في تقديم تفسير “مقنع” لما جرى من اختراق غير مسبوق داخل هيكلية الوكالة المركزية، بالقاء الضوء على ميل الوكالة “تشغيل متعاقدين خاصين” من خارج السلم الوظيفي كأحد ابرز الثغرات الأمنية – لابعاد المسؤولية الحقيقية عن هيكلية مترهلة، كما يتردد.
ونقلت عن مدير الوكالة السابق بالانابة، جون مكلاغلين، قوله انه يتعين على طواقم التحقيق في مجال مكافحة التجسس التثبت من “سلامة ثلاثة ابعاد أمنية تتعلق بطبيعة الحيز المكاني والقدرات التقنية المنتشرة والأمن الذاتي للعاملين.” وشددت النشرة على تصريح جوليان اسانج بوصفه الترسانة الاستخباراتية “عمل تاريخي (نتيجة) عدم الكفاءة بشكل كارثي .. اذ ان البيانات المتوفرة تم تصميمها بحيث لا تبقي أثرا لتقصي الفاعل او تحمل أحد او هيئة ما المسؤولية.”
المؤسسات الاميركية الخاصة والعامة العاملة في مجال التقنيات والاجهزة الالكترونية، تلقت ضربة قاسية أمنية للمرة الثانية، بعد كشف سنودن عن تجسس وكالة الأمن القومي. اعتقدت تلك المؤسسات انها استطاعت الحصول على “تنازل” أمني رسمي من الرئيس السابق اوباما يقضي باحاطة تلك المؤسسات عن “نقاط ضعف اساسية، محاولات استغلال وابتزاز، ثغرات أمنية” توصلت اليها وكالة الأمن القومي “باستمرار.”
وقعت الصدمة الثانية لتدل على عدم التزام المراتب الاعلى في الدولة لدرة الاقتصاد الاميركي “وتفوقه الكترونيا،” وتشير الى مواطن ضعف هيكلية في عمل الاجهزة الاستخباراتية تنافي ادعاءاتها بالحفاظ على سرية وتميز الشركات الاميركية على النطاق العالمي.
في ظل مناخ التسريبات الاخيرة، لا يستبعد الاخصائيون الكشف عن مزيد من البرامج السرية والثغرات الأمنية في فترات زمنية ليست بعيدة، لتكشف المزيد من التهور الأمني واهتزاز الثقة المسلم بها في صدقية المؤسسات الاستخباراتية – مما يعيد الى الاذهان شهاة كاذبة لمدير وكالة الأمن الوطني، جيمس كلابر، امام لجان الكونغرس بقوله ان “الوكالة لا تتجسس على الاميركيين،” ولم تتم محاسبته بعد انكشاف زيف ادعاءه.
مؤسسة خارج السيطرة
في اعقاب تدابير وقائية لتفجيرات ايلول 2001، حازت وكالة الاستخبارات المركزية على حصة الاسد من الاهتمام الرسمي والميزانيات المخصصة، بعضها أتى على حساب “غريمتها” وكالة الأمن الوطني. واستطاعت الزهو بانشاء قوة كبيرة من الطائرات المسيرّة، الدرونز، ونشرها عبر العالم؛ فضلا عن تسخير وتشغيل طواقم قرصنة اضافية. بل استطاعت الحفاظ على سرية تحركاتها وحجب بياناتها عن وكالة الأمن الوطني – منافستها الرئيسة، والاطلاع احادي الجانب على خزائن غريمتها دون احتجاج او رقابة او محاسبة. واضحت تضم بين هيكليتها وكالة أمن وطني اضافية تشرف عليها بالكامل.
بينت وثائق “ويكيليكس” ان دائرة التطوير الهندسي التابعة للوكالة المركزية تشرف على نحو 500 برنامج مختلف، كل له استقلاليته وموارده التقنية الخاصة، لمهام الاختراق وغرس البرامج الخبيثة والتحكم بالخصوم واستخراج البيانات الداخلية.
كما بينت الوثائق على مهمة اخرى منوطة بدائرة التطوير الهندسي تدار من قبل مقر الوكالة بالقرب من العاصمة واشنطن عمادها تشغيل “مراكز ومنصات تنصت ونظم للتحكم والسيطرة على عملاء الوكالة” وكذلك شن هجمات الكترونية تصيب عصب اجهزة تحويل نقل بيانات شبكة الانترنت واجهزة التلفزة.
من ابرز الخصائص التي كشفتها وثائق “ويكيليكس” خريطة تمدد الوكالة المركزية وبرامج اختراقاتها السرية بعضها تعززه قدرات تسليحية، واستخدام تلك القدرات بفاعلية وسرية عالية ضد منتجات كبريات الشركات الاميركية والعالمية: آبل، مايكروسوفت، غوغل، وسامسونغ الكورية.
وحذرت “ويكيليكس” من مخاطر “الانتشار الواسع للاسلحة الالكترونية .. وعدم القدرة على التحكم والسيطرة عليها بدافع المنفعة المادية العالية المتضمنة.” الأمر الذي نشّط قلق المستخدمين من تورط مسؤولي الشركات الكبرى في توظيف الطاقات الهائلة لمصلحة الاجهزة الاستخباراتية في تصرفات منافية لوعودها وتعهداتها بحماية اجهزتها التجارية من الاختراق.
بالتزامن مع وثائق “ويكيليكس” سخر اخصائيون بالعلوم الالكترونية من ادعاءات الحكومة واجهزة الاستخبارات الاميركية باتهامها روسيا مسؤولية اختراق اجهزة الحزب الديموقراطي إبان الحملة الرئاسية. واوضحوا ان الوثائق تدل بصورة قاطعة على استخدام الوكالة المركزية لتقنية “عَلم زائف،” تترك بصمات توصل المتتبع لهوية منفذين روس.
واضاف هؤلاء ان دائرة الاجهزة عن بُعد في الوكالة، امبريج – الاستياء، مهمتها “اعداد وتشغيل مكتبة هائلة من تقنيات القرصنة “سُرقت” من برامج انتجتها دول اخرى بما فيها الاتحاد الروسي.”
واوضح احد ابرز خبراء التقنية والمقيم في نيوزيلندا، كيم دوتكوم، ان “الوكالة المركزية تسخر تقنيات تستطيع بموجبها تعديل هوية الفاعل ومصدرها من دول عدوة. بل اضحت ادعاءات الوكالة بقرصنة روسيا لاجهزة الحزب الديموقراطي مثار سخرية؛” واحال المسؤولية لأجهزة الاستخبارات الاميركية نفسها.
وعليه، باستطاعة دائرة “امبريج” زيادة عدد الهجمات التي تقوم بها فحسب، بل تعديل بوصلة هوية الفاعل ونسبها لمجموعات تم سرقتها منها،” والتي تتضمن هوية المستخدمين الالكترونية وكلمات السر وصور التقطتها كاميرات اجهزة الكمبيوتر، وخصائص اخرى مميزة.
كما استخدمت الوكالة المركزية تقنية من صنعها تدعى “الملاك الباكي” تحول اجهزة الهواتف والتلفزة “الذكية،” والالعاب ايضا، الى محطات تنصت دون علم اصحابها حتى وهي في حالة مغلقة، تحيلها لاجهزة تسجيل كل ما يدور في محيطها من محادثات ترسل لمشغليها في مقر الوكالة على الفور.
الخطورة المستحدثة والاضافية في برامج الوكالة المركزية هي قدرتها على التحكم عن بعد بمقود السيارات وتسخيرها للقيام بعمليات اغتيال يصعب الكشف عنها، كما اسلفنا في حال مندوب اسبوعية رولينغ ستون.
في البعد الدولي والديبلوماسي، طالبت الحكومة الالمانية الولايات المتحدة توفير بيانات لاستخدامها اراضيها كمقر للتنصت بداخل القنصلية الاميركية في مدينة فرانكفورت، والتي تغطي مساحات شاسعة في اوروبا وافريقيا والشرق الاوسط، خاصة لحمل مشغليها جوازات سفر ديبلوماسية اميركية. وسبق لألمانيا ايضا ان “احتجت” لدى الرئيس اوباما عند كشف سنودن عن تنصت الاجهزة الاميركية على الهاتف المحمول الخاص بالمستشارة انغيلا ميركل، دون ان تسفر عن خطوات ملموسة.
نظرة على المكشوف
ادناه قائمة تضمنتها وثائق “ويكيليكس” توضح البرامج والتقنيات المتبعة من قبل وكالة الاستخبارات المركزية“
اومبريج – الاستياء: مكتبة هائلة لتخزين البرامج الضارة والخبيثة من حول العالم، وبخاصة تلك التي تنتجها هيئات وشركات روسية وصينية وكورية شمالية ايضا. باستطاعة الوكالة شن ما تراه مناسبا من هجمات الكترونية ونسبها لمنتجين آخرين دون ترك اي أثر لها.
فاين دايننغ – العشاء الفاخر: تقنية قرصنة خاصة باختراق اجهزة وشبكات أمنية وهي في حالة الانفصال عن الاتصال بشبكة الانترنت، مثل قاعدة بيانات اجهزة الشرطة في بقعة مستهدفة. عندها، يدخل وكيل الاستخبارات المعين بتفويض رسمي للدائرة المستهدفة مسلحا بشريحة تخزين محمولة، USB، بداخلها برنامج خبيث صنع خصيصا من قبل الوكالة المركزية، يوضع تحت تصرف جهاز الكمبيوتر لنشر سمومه الالكترونية ويرسل البيانات تباعا.
من بين سبل التمويه التي تستخدمها الوكالة التذرع بأن الذاكرة المحمولة تحوي بيانات مصورة او برامج العاب كمبيوتر، او برنامج وهمي للحماية من الفايروسات. ومن ثم يتغلغل البرنامج الضار داخل الجهاز بذريعة “بريئة” للتحكم بكافة البيانات التي تراها الوكالة حيوية وضرورية. الملاحظ خلو تلك البرامج من اي صلة تستهدف الجماعاتع المتطرفة او مرتكبي الجرائم الدوليين.
امبروفايز – الابتكار: عبارة عن مجموعة برامج تتحكم بالتشغيل تشمل كافة “انظمة التشغيل،” مثل “ويندوز، آبل ماك او أس، ولينكس دانس فلور.”
هايف – خلية النحل: مجموعة من برامج انتجتها الوكالة المركزية تعمل على انظمة تشغيل متعددة، تنشر تعليمات ضارة خاصة بنظم “ويندوز، سولاريس، مايكروتيك (اجهزة توجيه الانترنت)، ولينكس؛” تزرع آلية تنصت وقيادة وتحكم ترسل البيانات المطلوبة عبر شبكة الانترنت، كل منها لها ما يميزها من هوية مختلفة عن الاخرى.
هامر دريل – مطرقة الحفر: مجموعة برامج تستهدف اجهزة كمبيوتر تعمل بنظام “ويندوز،” تزرع الفايروسات عبر عدد من وسائل التلقيم: اقراص مدمجة، اقراص ذاكرة وتخزين محمولة – USB، والتثبت من بقاء الفايروس في الاجهزة المستهدفة.
بروتال كانغارو – الكنغر الوحشي: برنامج مخصص لاجهزة تعمل بنظام “ويندوز،” يخزن البيانات بواسطة صور او في مساحات مخفية من الاقراص الثابتة في الاجهزة.
أساسين و ميدوسا – القاتل وقنديل البحر: برامج لنشر الفايروسات العائدة لقسم “الغرس الآلي” في الوكالة للاستهداف والتحكم عن بعد.
“ويكيليكس” اوضحت ان حجم المفرج عنه من بيانات وبرامج “ضخمة” لا تشكل سوى “1 %” من مجموع محتويات “الخزنة رقم 7” الخاص “بالسنة الصفرية.” وما علينا الا الانتظار لمقبل الايام للتعرف على اخطبوط التجسس الاميركي على العالم برمته.