عميرة هس ووهم “اليسار المتضامن”
باسل الأعرج
منذ أن ادعيت أنني أصبحت واعياً (على افتراض غياب فكرة الوعي الزائف) لم أعد أبداً الى تبسيط الصراع، لم أعد أرى كما تمّ تلقيني منذ الصغر أن هذا صراع بين عرب ويهود، بين فلسطيني واسرائيلي، وهجرتُ تلك الثنائية الى غير رجعة، تركت تلك النظرة التبسيطية الساذجة، واقتنعت بتقسيمات علي شريعتي وفرانز فانون (1) لهذا العالم .
ستجد في كل معسكر من المعسكرين أناسا من كافة الاديان واللغات والعرقيات والاثنيات والالوان والطبقات، فستجد مثلاً في هذا الصراع أناساً من أبناء جلدتنا يقفون وبكل فظاظة في المعسكر الآخر، وفي نفس الوقت ستجد يهوداً يقفون في معسكرنا، لكن أشخاص مثل عميرة هس لا أستطيع أن أصنفهم أبدا في المعسكر التحرري.
عميرة هس شخصية جدلية جداً، ينظر بعض الفلسطينيين لها على أنها جزء من نضالنا ويصفونها بالشجاعة والبطولة. بينما يراها بعض الصهاينة خطراً ويجب كبح جماحها وتقديمها للمحاكمة. لكن أنا لا أراها إلا موريس توريز (رئيس الحزب الشيوعي الفرنسي اثناء الثورة الجزائرية) جديد باستثناء أنها تملك منظر اكثر عصرية وتصفيفة شعر جميلة وتضاريس أنثوية، لا أرها الا كابتن برات (مدارس الهنود الحمر 1840-1924) لا يمضغ تبغاً، صديقة عصرية للهنود الحمر، وليست الا آموس عوز جديد (2).
هي لا تختلف أبدا عن أي مثقف من مثقفي المستعمِر ولا عن أي أستاذ من أساتذة الأخلاق الذين يتقاطرون الينا ليعطونا الحلول والبدائل ودروسا في الاخلاق والانسانية وأساليب النضال. وهي ليست الا جندياً في المعركة الخلفية التي يطلقها المستعمِر في ميدان الثقافة والقيم. تعترف “بحقوقك” لكن بشروط، وأهم شرط هو أن تظل تدور في فلكها وأن لا تحاول التمرد على ما تلقنه لك، وصار لزاماً على المستعمَر من أجل هضم ثقافة مضطهديه ان يقدم ضمانات ومن بينها تبني اشكال التفكير الخاصة بالبرجوازية الاستعمارية التي تمثلها هس ولا تضيع الفرصة أبدا في سبيل تطبيق مقولة ” المستعمِر هو الذي صنع المستعمَر وما يزال يصنعه”. فليقل أحد للفلسطينيين إنه الاحتلال يا “بلهاء”هذا عنوان أحد مقالاتها والذي قامت بترجمته ونشره شبكة راية الاعلامية في تاريخ 11-9-2012. تتحدث في هذا المقال عن موجة الاحتجاجات على سياسات فياض الاقتصادية، وتقول إن الإسرائيليين عباقرة وتكررها أربع مرات في المقال في حين وصفت الفلسطينيين “بالبلهاء”.
فاذا ما تجاوزنا الفوقية والعنصرية والتبخيس في مقالها واقتناعها بأن الفلسطينيين ما زالوا يحتاجون الى أوصياء عليهم، واذا ما تجاوزنا ان مقالها لا يختلف أبدا عن مقولة أبا ايبان (3)، أو مقولة آموس عوز (4)
فاذا تجاوزنا هذا كله فإنها لا تختلف أبداً عن أي مستعمِر آخر. الاستعماريون لا يرون اهل البلاد الا ككتلة غير متمايزة تطلب ان يتوجه الاحتجاج باتجاه “اسرائيل” بما انها هي المسبب للوضع الاقتصادي البائس , وليس بإمكانها ابدا ان ترى ان هناك فلسطينيين شاركوا بالاحتجاجات ضد السلطة وفياض على قاعدة انهما ذراع من أذرعة الاحتلال واداة سيطرة وتحكم وتدجين وامتدادا للمشروع الاستعماري وضرورة من ضروراته ومقاولا بخسا، ولا تستطيع أن تستوعب أن بعض الفلسطينيين يرون ان أي صدام مع السلطة ليس صداما مع فلسطيني آخر بل صداما مع أداة من أدوات الاحتلال.
الشماليون من بلعين
كثيرا ما تقوم هس بالتضليل والحشو والتأويل للنصوص بما يوافق افكارها وأيديولوجيتها، ففي هذا المقال المترجم في موقع فلسطين اليوم تتناول الصحفية تأثير فيلم خمس كاميرات مكسورة على الأسرى، و تقتبس نصوصا من رسالة الاسير وليد دقة الى عنات مطر.
تحاول وبكل وضوح نشر افكارها بين الفلسطينيين مستخدمة رمزاً كبيراً مثل الاسير دقة صاحب دراسة صهر الوعي والتي تبين تماما توجهاته وأفكاره، وتقوم بتأويلات غريبة ونزع مقاطع من الرسالة وتأويلها حسب رغباتها. كذلك تقوم ولنفس السبب بالتأكيد على براءة وليد من دم الجندي الذي قتلته الخلية التي كان يعمل معها. وتقول: “ومع السنين توصل دقة الى الاستنتاج بان أفكاره وآماله الاجتماعية والوطنية يمكنه أن يعبر عنها بشكل افضل في حزب في اسرائيل – التجمع الوطني الديمقراطي. وقد نجح في الصراع القانوني الذي أداره من السجن، وتصنيفه في مصلحة السجون كرجل الجبهة الشعبية – شطب. ومؤخرا تحددت محكوميته بـ 37 سنة”.
ولربما تعتبر هس ذلك اعلاناً من الأسير وليد دقة عن تبرئه عما سبق واصابته بعدوى المراجعات المنتشرة هذه الأيام، في حين يعلم أي شخص قريب من قضايا الاسرى أن الصراع القانوني الذي أداره دقة في السجن ليس تراجعاً عن أفكاره وإنما هي مناورة على القانون الاسرائيلي. إذ يحمل وليد يحمل الجنسية الاسرائيلية، لكنه حوكم وفق القانون العسكري وليس القانون المدني، وفي القانون العسكري الحكم المؤبد هو نظير لمدى الحياة، لكن إذا ما تمت محاكمته وفق القانون المدني فإن رئيس دولة العدو يستطيع تحديد مدة المؤبد بـ25 سنة أو 99 سنة.
ولا تترك هاس الفرصة ابدا في أي مكان في مقالها هذا للإيحاء بأن وليد ينبذ العنف لتحاول الترويج لمفهوم واستراتيجية وفلسفة النضال وادواته وفق هواها ومصالحها وما يناسبها.
رشق الحجارة
أدى هذ المقال الى موجة حادة من الهجوم عليها من قبل مجتمع العدو، وطالب البعض منهم بتقديمها للمحاكمة، ووصلتها تهديدات بالقتل والترهيب بسبب ما طرحته في مقالها.وتم ترجمته ونشره في صحيفة الغد الاردنية 4/4/2013. عندما قرأت المقال وللوهلة الاولى التبس علي الامر. فهي تدعو لرشق الحجارة وتعتبرها “حقاً وواجباً فطريين لمن يقعون تحت سلطة أجنبية”، وتدعو الى “تعلم وتطوير اشكال الصمود والمقاومة وقواعدهما وقيودهما”، وتؤيد حملة المقاطعة.
ومن المعروف ان هس تؤيد حل الدولتين وتناصر مساعي السلطة لتطبيق مشروعها (الانهزامي التنازلي)، ولا تعترف ان فلسطين هي كل الاراضي التي كانت حددتها سلطات الانتداب البريطاني في صك الانتداب، بل ترى أن فلسطين هي الضفة وغزة وشرق القدس. و ترى التوجه للأمم المتحدة كـ “عصيان مدني بالدبلوماسية”.
في قراءة ثانية متأنية للمقال صار بإمكاني اكتشاف السم الذي دسته في العسل. فهي تدعو الى مقاومة لاعنفية وان كان في رشق الحجارة بعض من العنف فان المهم أن الفلسفة والاستراتيجية التي تقف خلفه هي اللاعنف الذي يرتكز على اثارة الضمير والاخلاق لدى الخصم. وترفض الاعتراف بحق “من يقعون تحت سلطة أجنبية” بممارسة العنف، فقد حددت مسبقا القيود الواجب ان تحكم اشكال الصمود والمقاومة. من القيود مثلا: “التفريق بين المدنيين وحاملي السلاح، وبين الاولاد ولابسي البزات العسكرية. وقيد آخر هو محدودية السلاح واخفاقاته في الماضي”، على حد تعبيرها .
وتقترح منطقا لتدريس “الطلاب في المدارس الفلسطينية دروسا أساسية في المقاومة”، بدلاً من تكرار تجربة اطفال الار بي جي في مخيمات لبنان او تطبيق برنامج مثل “فتوة” الذي تقوم وزارة التربية في غزة بتطبيقه في المدراس على الذكور في المرحلة الثانوية وسيبدأ العمل به ايضا في مدراس الاناث.
ولن تجدها أبدا تقصد بقولها “كيف يتم السلوك في حال مداهمة عسكرية لمنزل”، بمعنى ان ” احذر ان تتدجن سكينك للمطبخ” ولا كيفية تعليم المراهقين امساك السكين وكيفية توجيهها الى اضعف نقطة في جسم الخصم و زاوية اختراقها للجسم بين انسب ضلعين في الصدر لتكون الطعنة اكثر فتكا، بل ستجدها تتحدث عن ” كيف يتم تذكر تفصيلات الجندي الذي طرحك مقيدا على ارض الجيب – لتُقدم شكوى بعد ذلك” و ” كيف يُستعمل الفيديو لتصوير عنف ممثلي النظام”.
ولا يفوتها ابدا أن تؤكد على الاشكال الجمالية لاحترام النظام القائم والذي سيدفع باتجاه مزيد من الخضوع ويصب في خانة تحسين شروط العبودية من مثل “محاولة تحقيق جماعي للحق في حرية الانتقال”. وتطلب المقارنة والموازنة “بين نضال المستعمَرين في بلدان مختلفة” طبعا لم تقصد فيتنام والجزائر بل الهند وجنوب افريقيا، مع تأكيدي على احترام نضالات الشعبين وتضحياتهما واحترام تجربتهما.
في نهاية المقال تقوم باعطاء تحليل صبياني جدا عن سبب عدم وجود هذا البرنامج في الخطة المدرسية، ولا يفوتها ابدا ان تؤكد على ان المستعمِر ينظر الى المستعمَر على أنه “خامل، جاهل، كسول” .
ويفوتها قول روسو: “بينوا الطريق للناس ولا تحددوا ما عليهم فعله،امنحوهم الرؤية فحسب وهم سوف يجدون الطريق بأنفسهم ويعرفون ما عليهم”.
أخيراً ومع اني أشك أن هس ستقرأ هذا لأن كاتبه شخص “غير متمايز أبله غبي وكسول”، وتجاوزاً لعادتي بعدم التوجه بالخطاب إلى العدو (هناك لغة خاصة لمخاطبتهم)، ومع إيماني بأن “تغيير العالم الاستعماري ليس معركة عقلية بين وجهتي نظر وليس خطاباً في المساواة بين البشر وإنما هو تأكيد عنيف لأصالة تفرض مطلقا”، إلا أنني سأقول لكِ: غادرينا فلستِ يوآف بار أو زوجته هاريس او جونثان بولاك. أنت عدو! وأراكِ خطراً على شعبي أكثر من خطر ليبرمان، فالكل الفلسطيني لا يختلف على أن ليبرمان عدو أما أنتِ فإنك تجيدين خلط أمر الناس عليهم.
(1) يُقسم شريعتي العالم إلى عالم أول وعالم ثانٍ، وفانون يقسمه إلى معسكر تحرري ومعسكر استعماري.
(2) آموس عوز: روائي صهيوني يصفه ادوراد سعيد في “القلم والسيف” شخصية اسرائيلية مركبة مقولبة. لديه تلك النظرة المتوجعة لشخص يبحث عن حل. ويقول ان الاحتلال سيء لروحنا وانظروا ما الذي يفعله بنا , ويقول جمل مثل على الاحتلال ان ينتهي ونحن ضد الهيمنة عل شعب اخر وفي نفس الوقت يطرح اراء حول الفلسطينيين ويصفهم بأقذع الاوصاف.
(3) مقولة ابا ايبان:” إن الفلسطينيين لم يضيعوا فرصة لتضييع فرصة”.
(4) مقولة اموس عوز: “إن الفلسطينيين كانوا دائما على الجانب الخطأ: هتلر، عبد الناصر، الاتحاد السوفيتي ثم صدام”.