تخيير لبنان بين مقاومة تحفظ الأرض ووصاية خارجية تضيّعها العميد د. أمين محمد حطيط
تؤكد قواعد القانون الدولي العام للدول والشعوب حقها في تقرير المصير والسيادة والاستقلال بمنأى عن الإرادات الخارجية المصادَرة إرادتها والمنتهكة سيادتها وقرارها المستقلّ. وعندما نتحدث عن الاستقلال، فإنّ ذلك لا يعني الانفصال عن العالم والعيش في عزلة عنه إذ لا يمكن تصوّر هذا في الحياة الدولية خاصة في العصر القائم بعد أن بات العالم قرية كونية واحدة يسمع أقصاها خبر أدناها او أيّ نقطة في الارض ويتفاعل معه ويتلقى بعضاً من مفاعليه.
فالاستقلال يتيح برأينا ممارسة السيادة على الذات بقرار ذاتي يأخذ بالاعتبار مصالح الآخرين في المحيط القريب والبعيد من دون أن يلحق ضرر بها، وإن كان في الإمكان أن ينالهم من التدبير منفعة مباشرة أو جانبية فلا ضير في ذلك، ولكن لا يكون استقلال وممارسة سيادة عندما يكون القرار قرار الخارج في الداخل، أو يكون متخذاً بإملاء من الخارج على الداخل لتحقيق مصلحة هذا الخارج على حساب الداخل، فهنا يكون في الأمر وضع يد أو استتباع ووصاية قد تصل إلى حد الاستعمار.
وانطلاقاً من هذه المبادئ المعمول بها، لا بل المسلم بها في القانون الدولي العام، نطلّ على موقف بعض الدول من المقاومة في لبنان وتدخلها في شأنها والشأن اللبناني وتخيير لبنان بينها وبين هذه المقاومة.
بداية نقول إن الكل يعرف ان «إسرائيل» احتلت أرضاً لبنانية منذ العام 1978 واستمرّت ممسكة بها غير آبهة بقرارات دولية او ضغوط خارجية وأرست في الميدان واقعاً يكاد ينبئ بان الاحتلال باقٍ إلى الأبد، لا بل أقول إن أكبر دولة في العالم الولايات المتحدة الأميركية والتي رعت المباحثات التي افضت الى اتفاقية 17 أيار، اعترفت لـ«إسرائيل» بهذا «الحق» وقبلت احتلالها المباشر في مرحلة أولى واحتلالها غير المباشر مع إعطائها حق التدخل المباشر متى شاءت في مرحلة ثانية. وهنا أذكر قول ضابط أميركي كان في عداد الفريق الأميركي لتدريب الجيش اللبناني في العام 1983، قوله لي «لا تنتظر أن تخرج «إسرائيل» من لبنان ولا تنتظر أن يُترك للبنان حكم أكثر من إدارة ذاتية، فلبنان مهم لـ«إسرائيل» عملانياً واستراتيجياً للدفاع عنها وأميركا تؤيد مطالبها».
في مواجهة هذا الواقع نظمت في لبنان مقاومة شعبية متعددة المنطلقات الفكرية والعقائدية، منها العلماني والقومي والديني الخ…. ولكن الجميع ورغم عدم التوحّد البنيوي والعضوي كانوا متوحّدين على هدف تحرير لبنان من الاحتلال، وساهم كل مقاوم وعلى طريقته ووفقاً لإمكاناته ومعتقداته بعملية التحرير التي استغرقت 18 سنة عمل ميداني تمّت فيها مقارعة الاحتلال بمقاومة تدرّجت من الحجر والزيت المغلي، الى أن وصلت الى الصاروخ الذي يصل الى ما بعد بعد حيفا… ورغم الضغوط الداخلية والخارجية كلها استمرت المقاومة في عملها ولم يؤثر فيها توقف البعض عن الاستمرار في الميدان، بل تابعت مسارها التصاعديّ حتى سجلت في العام 2000 أول نصر عسكري وسياسي كامل ومتكامل في وجه العدو الصهيونيّ تمثّل بطرد المحتل من معظم الجنوب من دون حوار أو تفاوض أو توقيع معاهدة ذلّ أو إذعان.
وبعد التحرير استمرّت الحاجة للمقاومة قائمة لسببين الأول يعود الى الواقع الميداني، حيث إن «إسرائيل» استمرت في احتلالها أرضاً لبنانية في مزارع شبعا ونقاط أخرى متحفّظ عليها، والثاني وهو الأخطر، حيث «إسرائيل» استمرت في تهديدها لبنان والعودة اليه لتحتله وقد نفذت التهديد فعلياً في العام 2006 وأفشلتها المقاومة. وهذه الحاجة للمقاومة استمرت قائمة لسبب جوهري أساسي أيضاً هو أن لبنان لم يستطع أن يمدّ جيشه بأسباب القوة التي تجعله قادراً منفرداً على دفع التهديد «الإسرائيلي» وخطره واستعادة الأرض من المحتل.
ولأن هذه الحاجة للمقاومة هي هكذا فقد تمسّك لبنان الرسمي بمرونة وذكاء بمبدأ المقاومة وكرّسه عملياً وواقعياً ركناً من استراتيجية دفاعية واقعية عبّر عنها بثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» التي اعتمدت في البيانات الوزارية كلها بنصها أو بعبارات أخرى مماثلة منذ التحرير في العام 2000. كما كان للمقاومة عيد وطني رسمي حيث اعتبر 25 أيار يومها وعيدها.
كل هذا اتخذه لبنان حفاظاً على أمنه وأرضه وسيادته عليها واستقلاله الذي لا يمسّ مصالح أحد من اشقائه وأصدقائه وسلمت الدول العربية كلها بهذا الواقع وتضامنت مع لبنان في موقفه من المقاومة منذ العام 2000، أيضاً ولما حاول فؤاد السنيورة في العام 2006 أن يشطب المقاومة من بيان ومقررات القمة العربية في السودان تصدّى له العماد لحود رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك ومنعه وفرض النص كما يناسب لبنان وحفظ مقاومته التي كان العماد لحود أول قائد للجيش يحتضن المقاومة ويؤكد حقها في تحرير الأرض. وعلى هذا أي التمسك بحق لبنان سارت القمم العربية بعد ذلك، أي على النص الذي وضعه العماد لحود في القمة تمسكاً بحق لبنان بتحرير أرضه وبالمقاومة من أجل ذلك.
و عندما سئل العماد عون عن المقاومة مؤخراً، كان طبيعياً ومنطقياً أن يجيب بالحقيقة. وهو قائد سابق للجيش ومفكر استراتيجي، وسياسي يلتزم بالواقعية السياسية، كان طبيعياً أن يجيب بأن المقاومة حاجة لبنانية لتحرير الأرض ودفع خطر التهديد «الإسرائيلي» عن لبنان، طالما أن لبنان لم يتمكّن حتى الآن من تزويد جيشه بما يمكنه منفرداً من القيام بهذه المهمة. وقد كان موقف العماد عون من المقاومة ودورها موقف الحريص على المصلحة الوطنية وعلى قسمه كرئيس للجمهورية، قسمه بالحفاظ على لبنان وأرضه، لأنه يعلم وهو الخبير المحترف بأن التفريط بالمقاومة اليوم هو تفريط بأرض لبنان واستقراره. والغريب في الأمر ان ممارسة العماد لحق دستوري طبيعي أغضب البعض في الداخل والخارج وأخرج الأحقاد من الخبايا وانطلق التهديد للابتزاز.
لقد عملت «إسرائيل» ولا تزال تعمل بكل ما أوتيت من قدرات لضرب المقاومة وتفكيكها من أجل أن تحمي احتلالها لأرض لبنانية، خاصة بعد ان توصلت الى استنتاج بأن المقاومة التي ينظمها حزب الله هي الخطر الأول في العالم الذي يهددها. وعندما تلاقى بعض العرب مع «إسرائيل» في تحالف استراتيجي خرج بشكل أو بآخر الى العلن، انضمّ هؤلاء اليها في العداء للمقاومة مبررين عداءهم بأكذوبة تبعية حزب الله لإيران التي باتت بنظرهم عدواً و«إسرائيل» التي تغتصب فلسطين صديقاً.
لقد انطلق الغاضبون من موقف لبنان الرسميّ الذي عبّر عنه بوضوح وموضوعية العماد عون، في الردّ بما يستطيعون لابتزاز لبنان والضغط عليه ليتراجع الرئيس عن موقفه وإلا…. وفي سياق هذا الردّ الحاقد والغاضب كان إطلاق النار غير القاتل على النائب إبراهيم كنعان في رسالة تهديد واضحة، كما كان رفض السعودية والبحرين والإمارات لفقرة التضامن مع لبنان في البيان الختامي للقمة العربية التي ستعقد في آخر الشهر الحالي، والأكثر وقاحة أيضاً كان استدعاء دولة الإمارات العربية لسفير لبنان لديها لتبلّغه احتجاجاً على موقف العماد عون رئيس الجمهورية.
وهنا نقول إذا كان عرب التبعية يرتضون الانبطاح أمام «إسرائيل» والتحالف معها وتقديم الدعم لها، رغم أنها تغتصب أرضاً عربية وترفض عودة أهلها إليها، فإن عرب لبنان المستقل لديهم من العنفوان ما يفوق بقيمته وقدره أموال العالم وكنوزه، وإن لبنان إذا خُيّر من جهة بين استقلاله وتحرير ارضه الذي يستلزم المقاومة، علاقة تبعية وصداقة واهمة مقترنة بالتنازل عن الأرض وصداقة المحتل من جهة أخرى، فإنه حتماً سيختار العزة والاستقلال المحميّ بالجيش والمقاومة ولن يختار الارتهان والتنازل عن الحقوق.
وإذا كان العرب ألفوا في لبنان في بعض الأحيان حكاماً يقولون «نعم» على حساب المصلحة الوطنية اللبنانية، فإن تاريخ لبنان فيه حكام يقولون بلبنان العزة والكرامة في وجه العالم كله، ومن يريد أن يعرف فلينظر بالأمس في مواقف العماد لحود ولينظر اليوم في مواقف العماد عون. علماً أن لبنان يريد صداقة الجميع إلا العدو «الإسرائيلي» ولا يريد أن يشنج علاقته مع أحد، لكن لا يمكنه أن يتخلّى عن أرضه وأمنه واستقلاله من اجل صداقة أحد كائناً من كان هذا الـ»أحد».
(البناء)