أبعد من السلسلة

غالب قنديل
تعود سلسلة الرتب والرواتب إلى واجهة النقاش بمناسبة البحث في إقرار الموازنة العامة وقد تحولت هذه القضية الشائكة إلى محور للجدل منذ سنوات امام تصميم القوى السياسية الممثلة لمصالح الشريحة المالية والمصرفية التي تقود النظام اللبناني على مبدأ تثبيت المداخيل والأجور الخاصة بالفقراء وصغار الكسبة أسوة بتثبيت سعر صرف الليرة بقوة سيول الدين العام المتراكم تحت شعار ما يسمى بالهندسة المالية التي حبست الاقتصاد اللبناني في حلقة خطرة طغت عليها الريعية وغابت عنها سياسة دعم القطاعات المنتجة للثروة ونشأت بفضلها حقيقة ان جميع اللبنانيين يخسرون والمصارف وحدها تحصد الأرباح ومعها الشريحة السياسية النافذة في الحكم منذ ما بعد الطائف التي تقاسمت المنافع والتلزيمات في جنات الخصخصة الرحبة.
تحولت قضية السلسلة التي تنصف فئات عريضة من الموظفين وصغار الكسبة في المجتمع اللبناني إلى عنوان للمطالبة بالعدالة الاجتماعية لكن في الحقيقة إن ذلك لا يعدو كونه خللا والتباسا ذهنيا عند الرأي العام فالمشكلة الناتجة عن التصحيح المتداول قد تكون جدية والخطيئة الأصلية هي تعليق المعالجات لسنوات تراكم فيها الخلل وتوسعت الفجوة بين مداخيل الفئات الوسطى والفقيرة وكلفة العيش المرتفعة بتسارع يخطف الأنفاس في ظل انهيار الخدمات العامة وانفلات السوق من أي ضوابط وقواعد ناظمة.
ينبغي الاعتراف بأن بعض ما يقوله ممثلو التحالف الطبقي المهيمن على الاقتصاد اللبناني من شرائح مصرفية وعقارية وتجارية لجهة الانكماش الاقتصادي والشح المالي صحيح وهم يتخذونه ذريعة لتعطيل السلسلة ومنع مرورها ليحموا منافعهم وربحهم الفاحش .
معالجة الانكماش تكون بنهج جديد يرفع الناتج الوطني العام أي يقود إلى تعظيم الدورة الاقتصادية وتطوير موارد إنتاج الثروة الحقيقية وذلك الخيار هو الحل الناجع الذي يحمل الخير إلى جميع الفئات الاجتماعية لكن تغييرا من هذا النوع يفترض الأخذ بوقائع تبنى عليها الخطوات التصحيحية المطلوبة.
اولا إن الأرباح الهائلة المتراكمة في القطاع المصرفي هي حاصل ثلاثة عناصر ينبغي إدراكها والتعامل معها وانطلاقا منها وهي :
1- التمييز الطبقي المتضمن في السياسة الضريبية للدولة الذي يعفي أرباح المصارف وكبار الرأسماليين عموما من أعباء ضريبية كثيرة تفرضها دول أخرى في العالم وأي إصلاح ضريبي بمنطق العدالة الاجتماعية سيلغي كثيرا من تلك الامتيازات التي تتنعم بها المصارف في لبنان .
2- الفوائد الربوية الفاحشة التي حصدتها المصارف اللبنانية نتيجة السياسة المالية للحكومات المتعاقبة التي أصدرت سندات خزينة بالليرة قاربت الفائدة المركبة الممنوحة عليها معدل الأربعين بالمئة لعدة سنوات في التسعينيات.
3- الاستقرار الأمني الذي فرضته معادلة الشعب والجيش والمقاومة في وجه التهديد الصهيوني والتحدي الإرهابي وثقة اللبنانيين في الداخل وفي بلدان الاغتراب بالمصارف المحلية وقدراتها.
ثانيا إن ما يعادل المجموع التراكمي للأرباح الربوية الناتجة عن سندات الخزينة والربح الناتج بصورة غير مباشرة عن جهود الدفاع والحماية والاستقرار والإيداع والتحويل هو حق عام للشعب اللبناني ولخزينته وفي ظروف مواتية ماليا واقتصاديا وسياسيا سيكون من المشروع لأي كان المطالبة بحذفه كليا من احتساب الدين العام والمطالبة برده إلى الدولة وهو الأمر الذي يمكن ان يولد راهنا توترا يفوق طاقة البلاد على التحمل لكن التحيز اللاعقلاني إلى الرساميل المصرفية في السياسات العامة لم يعد جائزا ولا ممكنا وهو سيقود البلاد عاجلا ام آجلا إلى انفجار اجتماعي كبير.
بمنطق التسويات الممكنة بمقدور المصارف ان تحول تلك المبالغ التي تعادل اكثر من ثلث كتلة الدين العام إلى رصيد فعلي لتنمية الثروة الوطنية وقيادة تصحيح هيكلي للاقتصاد الوطني وللتوازن الاجتماعي عبر مشاركة كل منها بما يعادل عائدات أرباحها المتراكمة من الدين العام على الأقل في تمويل ميسر وبفوائد رمزية لمشاريع الإسكان ولتنمية الصناعة والزراعة ولتدعيم وإصلاح الضمانات الاجتماعية والصحية وفقا لخطط وطنية شاملة تتضمن تعميم المستشفيات الحكومية وتطوير الكهرباء وتعميم مشاريع الري وتخطيطا جديا لتنمية الصناعة والزراعة والسياحة بجميع فروعها مع الحماية المطلوبة جمركيا.