معادلة القرن ترامب والسيد: مَن يمنع الوهم ومَن يردع الحقيقة؟
ناصر قنديل
– في الفوارق بين مدرستين في الحرب النفسية ظهرتا في حرب تموز عام 2006 جهد الباحثون والعلماء المختصون بعلوم الحرب، خصوصاً الحرب النفسية لتمييز الفوارق بين المدرستين، واحدة هي المدرسة «الإسرائيلية» التي ذاع صيتها خلال خمسين عاماً سبقت الحرب بصفتها من أقوى المدارس العالمية، حتى بدأت تدرّس في كليات الحرب الغربية بصفتها المدرسة النموذجية، التي حلّت مكان المدرسة الألمانية النازية ونجمها غوبلز الذي ذاع صيته في الحرب العالمية الثانية وكيف كانت خططه الإعلامية تنجح بإسقاط عواصم ودول بإطلاق إشاعة أو خبر، حتى صار غوبلز مدعاة سخرية بفعل الدعاية «الإسرائيلية» التي استهدفته كمنافس في علوم الحرب النفسية، ولم يبقَ من مدرسته إلا نظرية «اكذب حتى يصدقك الآخرون»، ونجح «الإسرائيليون» بتسخيف مدرسة غوبلز وتبوأوا الصدارة مكانها ما بعد الحرب العالمية الثانية. حتى جاءت المدرسة الثانية، مدرسة المقاومة في الحرب النفسية التي يمثل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بطلها الأول، ومؤسسها وصانع إنجازاتها، وجاء انتصارها في حرب تموز ليمنحها صفة المدرسة المتفوّقة على المدرسة «الإسرائيلية». وبدأت البحوث تسعى لتبيان الفوارق ومصادر القوة الجديدة التي نجحت بالتفوق على المدرسة التي نظر إليها العالم بإعجاب كأولى مدارس العالم المتفوقة في خوض الحرب النفسية وتحقيق النصر فيها.
– كان التفوّق الذي تختزنه المدرسة «الإسرائيلية» يقوم على فلسفة كيّ الوعي التي أطلقها مؤسس الكيان المحتلّ ديفيد بن غوريون، وقوامها اللجوء للقوة المفرطة بوحشية التدمير والقتل لتعميم ثقافة الموت كثمن لكل مَن يفكّر في مقاومة الاحتلال، ولاحقاً في استعمال كل مصادر القدرة الحربية والنارية في مناطق الألم لكل دولة تفكر باللجوء للحرب على «إسرائيل»، ومواكبة هذا السلوك الميداني بالرسائل الإعلامية والنفسية التي ترسخ فكرة العجز عن المواجهة والقدر المحتوم بالهلاك والفناء لمن يفكّر فيها أو ينوي سلوك طريقها، فيصير تصريح «إسرائيلي» صحافي كافياً لتراجع دولة عن بناء منشأة مدنية، مثل مشروع جر مياه الوزاني في لبنان عام 1964، ويصير اللجوء لإحراق طائرات شركة طيران الشرق الأوسط اللبنانيّة فوق مدرجات مطار بيروت، رسالة كيّ وعي كافية عام 1968 للقول إن كلفة الوجود الفلسطيني المقاوم لـ«إسرائيل» أكبر بكثير من كلفة مواجهته. وتنطلق حضانة لبنانية لحرب على الوجود الفلسطيني المقاوم من وحي هذه الرسالة.
– بعد ظهور المقاومة وتناميها في جنوب لبنان وصولاً للتحرير العام 2000 دخل اللاعب الجديد المنتصر في الحرب الواقعية التي حدثت فعلاً، ليصير شريكاً على ساحة خوض الحرب النفسية، بينما «إسرائيل» تواصل ما كانت عليه من دون أن تقوم بتقييم مدى صلاحية مدرستها على مواصلة الطريقة التقليدية ذاتها التي نجحت في الماضي من دون التحقق وفحص مدى صلاحيتها للحاضر والمستقبل. وقد ظهر من نتاج الحرب «الإسرائيلية» مع المقاومة أن كيَّ الوعي قد أخفق في ردع مئات من اللبنانيين صاروا ألوفاً عن تشكيل حركة مقاومة والسير بها حتى نهاية التضحيات وأعلاها كلفة، وصولاً لجعل المسار معكوساً بإيصال رسالة قوامها، «لا جدوى من مواصلة احتلالكم أرضنا»، بدلاً من لا جدوى من تفكيركم في المقاومة». وفي الواقع تلقت «إسرائيل» رسالة المقاومة وسارت في النهاية بموجبها عبر انسحابها عام 2000، فيما تعطلت الرسالة «الإسرائيلية» عن الوصول والفعل، ولم تنفع المكابرة «الإسرائيلية» والمضي قدماً في المدرسة نفسها في منع نمو المدرسة الجديدة للمقاومة، التي رسمت معادلتها الذهبية في ساحة بنت جبيل بالكلمة الشهيرة لسيد المقاومة التي لا زال صداها يتردّد «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت». وجاء كل شيء بعد هذا التاريخ لحرب إرادات يجب أن تحسم النتيجة لصالح تأكيد المعادلة أو نفيها، وبالتالي تثبيت أي من المدرستين أبقى. وكانت حرب تموز عام 2006 هي اللحظة التي ستحسم، كيّ الوعي أم وعي الكيّ وكيّه بوعي جديد. بعد الحرب أمكن للمقاومة أن تخرج وتقول مجدداً بلسان سيّدها، «نعم إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»، بعدما أضافت إلى مخزونها في الحرب النفسية معادلات من نوع، «أردتموها حرباً مفتوحة فلتكن حرباً مفتوحة»، وانتظرونا «لقد أعددنا لكم من المفاجآت ما سيغيّر وجهة الحرب».. وهكذا كان تفجير المدمّرة ساعر وسواها من المفاجآت، وصولاً إلى الرد على معادلة تدمير صواريخ المقاومة بمعادلة «حيفا وما بعد حيفا وما بعد ما بعد حيفا».
– تميّز التفوق الجوهري في مدرسة المقاومة بكونها لم تطلق معادلات تراهن على التهويل والخوف والردع النفسي في تجنيبها الاختبار العملي، بل تجنّبت إطلاق أي معادلة تخشى اختبارها الفعلي في الميدان، وربّما حرصت على جعل معادلاتها المعلنة أدنى مستوى من قدراتها الفعلية دائماً، فصارت قوة الردع النفسي مضاعفة. فعندما تقول المقاومة ما بعد حيفا لا يصل لعقل العدو التحسّب ليافا بل للنقب وإيلات، لأن المقاومة دائماً لديها مفاجآت. بينما بقيت مدرسة «إسرائيل» تقوم على توظيف ميراثها السابق من التفوق واستحضار ذاكرة أمجاد الحروب التي خاضتها لترمي معادلات أعلى من قدرتها على خوض اختبارها العملي، كما حدث مع معادلة «ما بعد الليطاني» في حرب تموز، أو «سحق حزب الله»، أو «تدمير القدرة الصاروخية وإسكاتها»، وكلها معادلات أثبتت الحرب أنها فوق قدرة «إسرائيل». بينما بدأ سيد المقاومة الحرب بمعادلة قوامها، لسنا كحركة مقاومة معنيين بالدفاع عن خط جغرافي معيّن، فقد يصل العدو إلى الليطاني وما بعد الليطاني، لكننا نعده بحرب يحمل فيها على ظهور جنوده أشلاء قتلاه ودباباته، وفرقه العشرة التي يقول إنه أعدّها لنا ستعود أشلاء مقطّعة. وانتهت الحرب عند خط الحدود وقد مُنع «الإسرائيليون» من التقدّم شبراً داخل الأراضي اللبنانية إلا كأشلاء رجال ودبابات، والخاتمة بنصر مدوٍّ لمدرسة المقاومة في الحرب النفسية.
– تظهر خطابات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن المدرسة «الإسرائيلية» للحرب النفسية هي مولود من رحم المدرسة الأميركية، وأن ترامب يخوض حرباً نفسية، عنوانها كيّ الوعي، تهدف لتحقيق منجزات سياسية وميدانية بالرهان على الرعب والذعر من خروج أميركا للحرب، والرهان على التلويح بها لتحقيق أهدافها، من دون خوضها. ويبدو التركيز على إيران كقلعة لحركات المقاومة في المنطقة وسندٍ لها، هدفاً مباشراً للتحدي الأميركي الذي يسعى ترامب للتعامل معه، ويجهد مع شريكه بنيامين نتنياهو لوضعه تحت مجهر التصويب. ووفقاً لخطة مايكل فلين الذي رحل قبل أن يفرح باستقبال نتنياهو من موقعه كمستشار للأمن القومي، فالتصعيد الكلامي على إيران يجب أن ينتهي برسالة مضمونها أن على إيران أن تختار بين انسحاب حزب الله من سورية أو المواجهة المفتوحة. وهذا يعني تأمين متطلبات الأمن «الإسرائيلي» من الجبهة الشمالية الشرقية مقابل أمن الملف النووي الإيراني.
– تعاملت إيران بالتجاهل التام مع الرسائل الأميركية، وأرسل الإمام الخامنئي ردوداً من العيار الثقيل على التهديدات الأميركية، فعندما قال ترامب إنه سيلغي الاتفاق النووي، قال السيد الخامنئي إن كنتم ستلغون الاتفاق فنحن سنحرقه. وعندما قال الأميركيون إن الخيار العسكري على الطاولة ردّ السيد الخامنئي لماذا تبقونه على الطاولة هاتوه لنختبره في الميدان، ووصل تصاعد الاشتباك بمفهوم الحرب النفسية إلى الذروة، حيث لقاء نتنياهو ترامب يقترب، فخرج ترامب بمعادلة قوامها، سنمنع إيران من امتلاك السلاح النووي مهما كلّف الثمن، وهو يعلم أنه يقاتل وهماً، لأن الامتناع عن امتلاك السلاح النووي هو قاعدة الاتفاق الذي هدّد بإلغائه أولاً، ولأن الامتناع هو فعل طوعي معلَن من إيران ثانياً، ويصير التهديد الأميركي هنا كالتهديد للرئيس السوري ما لم يقبل بحلّ سياسي، وهو صاحب الدعوة الأصلية للحلّ السياسي، بينما كانت واشنطن صاحبة الدعوة للحل العسكري، ومنع المعارضة من قبول التفاوض، أو تهديد موسكو ما لم تقبل وقف التجارب النووية، وموسكو هي مَن يدعو لذلك. وهذا الحال هو التعبير عن هزال الحرب النفسية وتدنّي مفاعيل القوة إلى أدنى مستوياتها.
– في الذروة يسقط ترامب ومعه نتنياهو، وفي الذروة يخرج سيد المقاومة إلى حربه النفسية وهما يجتمعان ليقطعا اجتماعهما ويستمعا للمعادلة الجديدة، ليس على «إسرائيل» تفريغ مستودعات الأمونيا من حيفا فقط، بل تفكيك مفاعل ديمونا، لأن الحرب المقبلة ستتيح للمقاومة استعمال السلاح الكيميائي بتفجير مستودعات الأمونيا واستعمال السلاح النووي بتفجير ديمونا. والمعادلة هي أن إيران التي تقاتلونها وتهدّدونها لأجل خوفكم من دعمها لحزب الله، لأنه الواقف على الحدود وخطوط الاشتباك مع «إسرائيل»، وتريدون الشعور بالأمان إلى أنها لن تمتلك سلاحاً نووياً، وبالتالي لن يصير السلاح النووي جزءاً من معادلة الردع لدى المقاومة، فها نحن نبلغكم من الآن أن سلاحكم النووي الحقيقي، سيكون سلاحنا النووي لتدميركم به، من دون الحاجة لامتلاك سلاح نووي لا نحتاجه، ولن نحتاج لسماع تهديداتكم لمنع امتلاكنا له، فهو بين أيدينا ما دام مفاعلكم النووي في مرمى صواريخنا.
– في التوقيت والمضمون والدقة، رسم السيد معادلة الردع لترامب ونتنياهو معاً، معادلة حرب نفسية للقرن الحادي والعشرين.
(البناء)