عن القائد الشهيد عماد مغنية
غالب قنديل
جمعتني لقاءات متباعدة بالقائد الشهيد عماد مغنية الذي عرفته في السبعينات وتعرفت على صفحات مهمة ولافتة من سيرته النضالية كمقاوم من تجارب جمعته برفاق وأخوة لي من تيارات وحركات وطنية مختلفة أظهروا إعجابا كبيرا بالفتى الصارم والمثابر المسكون بفلسطين الذي لاقوه وقاتلوا معه على جبهة القتال ضد الاحتلال الصهيوني والميليشيات العميلة وفي جميع لقاءاتنا ظل القائد عماد مغنية ذلك المناضل الشجاع والفذ مسكونا بفلسطين كثمرة لوعي متقدم وتراكمي حصد الكثير من خبرة التجارب الكبرى ومسيرة الصراع ضد الهيمنة الاستعمارية في منطقتنا.
بعد بضع سنوات من تلك المرحلة كان الاجتياح الصهيوني عام 1982 وكانت معركة خلدة ومعارك الضاحية ضد قوات العدو وتقدم ذلك الفتى ورفاقه صفوف المبادرين لتشكيل فصائل المقاومة الأولى إلى جانب مبادرات عديدة في الطريق ذاته قام بها مناضلون وطنيون رواد من مختلف التيارات والاتجاهات الوطنية وجميعهم تلاقوا على رفض الهزيمة والانكسار امام الغزوة الاستعمارية الصهيونية فلم ترعبهم بوارج الحلف الأطلسي التي غزت سواحل لبنان ولا مشاة البحرية الأجانب المنتشرون في العديد من المواقع داخل العاصمة ومن حولها ولا آلة الاحتلال الصهيوني بجبروتها الناري وأسلحتها الفتاكة وبالطبع فهم لم يهابوا الأدوات المحلية لقوات الاحتلال وما وضع في خدمة الصهاينة من أجهزة تابعة للسلطات اللبنانية التي وقعت اتفاق العار في 17 أيار.
أدرك القائد عماد مغنية ورفاقه أن وجود قوات الاحتلال على أرضنا بقدر ما كان تهديدا وعدوانا خطيرا فقد كان فرصة لمقاتلة الصهاينة ولإنهاكهم وتدمير خرافاتهم أمام كل من يؤمن بتحرير فلسطين ويناضل لتحقيق الاستقلال الفعلي للبنان الذي عاش شعبه ولاسيما في الجنوب تحت تهديد العدوان الصهيوني منذ قيام الكيان الغاصب.
كانت للقائد عماد مغنية نظرته الثاقبة لأوضاع المنطقة وهو كان يردد دائما في نقاشاته ان الكيان الصهيوني هو القاعدة المركزية للهيمنة الاستعمارية على الشرق العربي والإسلامي وأدرك مبكرا ان مقاتلة هذا العدو والالتزام بفكرة تحرير فلسطين هو الشرط الموجب لأي نظرية للتحرر والاستقلال والتنمية وكان شديد الإيمان بمقولة الإمام الخميني عن الغدة السرطانية التي وصف بها الكيان الغاصب وغالبا ما يسهب الحاج عماد في شرحها باسترجاع فصول حاسمة من التاريخ العربي المعاصر واستنزاف هذه الغدة لكل طاقة تغيير او تحررعربية.
ذات مرة التقيته بعد اتفاق الطائف بفترة قصيرة وقد أكد لي بصراحة اعتقاده بأن التفاصيل السياسية الداخلية التي يستغرق فيها اللبنانيون ليست سوى ملهاة تستنزف طاقتهم كشعب وكتشكيلات سياسية لإشغالهم عن القضية المركزية التي هي طرد الاحتلال من أرضهم وتحرير الوطن من الغزاة الصهاينة مسترجعا مسيرة أحلام التغيير الداخلي التي حملتها حركات وقوى سياسية كثيرة لم تقم حسابا لوقوع لبنان على تخوم فلسطين المحتلة وكيف “فاجأها” الغزو الصهيوني للبلاد واحتلال العاصمة في خاتمة جميع المحاولات الفاشلة لتثبيت النظام الطائفي التابع للغرب والمتخلف في تكوينه وبنيته الاقتصادية والسياسية وتابع مستطردا : “حتى لو استطعنا ان نقيم جمهورية أفلاطون على أي رقعة عربية سيأتي الصهيوني ليدمر ويحتل وإن عجز ستؤازره الحكومات الرجعية العربية وحين يفشلون معا في ذلك سيغزونا الأميركي والأطلسي فصراعنا هو ضد الحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي الواحد والمترابط ولا مجال لغير لغة القوة والمقاومة والقتال هذا قدرنا وحين تكرس جهودنا لمقاتلة الصهاينة فنحن ننال من جميع اطراف هذا التحالف المعادي انا هذه قضيتي : هزيمة إسرائيل”.
التقيت القائد عماد مغنية مرة أخرى في ذروة مشهودة لتطورعمليات المقاومة في التسعينيات وكان يحمل في بريق عينيه إشارة انتصار وعلامة إنجاز كبير لكنه كان متواضعا وخجولا في الكلام عما يتحقق وبصمته المعروفة لا تتوه عن متابع لكفاح المقاومة التي كان أحد مؤسسيها الكبار بل كان مهتما بالحديث عن اهمية البناء العلمي والتقني لكوادر المقاومة وعن ضرورة تعلم آخر ما تنتجه المدارس العسكرية المتطورة في العالم بل واستطرد في الكلام عن عزمه على العمل مع رفاقه لمتابعة العلوم القتالية الخاصة بجميع الحروب وبشتى انوع السلاح ( البر والبحر والجو ) معتبرا ان العلم والمعرفة هما احد اهم ادوات صنع النصر وزف إلي بفرح خبر إتمامه لعدد من دورات الدراسة العليا في المعاهد العسكرية المتخصصة وكان ذلك الكلام في حينه يبدو مبالغة وضربا من احلام اليقظة في نظر الكثيرين لكني أيقنت فورا بأنني في حضرة قائد تاريخي لحركة مقاومة سيعقد لها الانتصار الأول من نوعه على الكيان الصهيوني فقد تذكرت في اللحظة عينها دراسة كنا في رابطة الشغيلة نعلمها للمناضلين الذين يدخلون الصفوف حديثا وعنوانها : “كل كادر قيادي كل كادر تنظيم” وهي مستقاة من أبرز التجارب الثورية في القرن العشرين وتدعو الكادر الثوري إلى إتقان جميع فنون القتال ومهاراته وتقنياته وبهذا المعيار كرس القائد عماد مغنية جهده وحياته ليبني جيشا جديرا بالنصر على العدو الصهيوني جاهزا للمساهمة في تحرير فلسطين وفي انتزاع استقلال لبنان الفعلي بردع الصهاينة .
كان القائد عماد مغنية لا يعرف المستحيل وكان يخطط مع رفاقه بأسلوب علمي لجميع المراحل الفاصلة وما شهدنا وسنشهده من الإنجازات الكبرى للمقاومة في قتالها ضد الحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي هو من نتاج ما ضج به عقل ووجدان هذا القائد العظيم الذي شق مسارا جديدا للنضال التحرري العربي وترك خلفه رفاقا مزودين بأدوات المعرفة وبروح التواضع والتضحية وهم يراكمون بكل شهامة إنجازات تاريخية كبرى في جميع الميادين تعانق احلام جميع الثوار والمناضلين الكبار في التاريخ العربي المعاصر.