من الباب إلى ريف اللاذقيّة: الميدان نحو مزيد من الاستعار تمهيداً لـ«جنيف» صهيب عنجريني
رغم صعوبة الجزم بعقدها في موعدها، تبدو جولة «جنيف» المُنتظرة مناسبةً صالحة لصرف أي تقدم ميداني يحققه طرف من أطراف الحرب السوريّة. وعلى نحو مماثل لكثير من الجولات السابقة، تبرز ملامح سعي دؤوب من مختلف الأطراف إلى تهيئة مشهد ميداني يناسب تطلّعات كلّ منها ويدعم موقفه، من أرياف حلب (الشرقي والشمالي والغربي)، إلى ريف اللاذقية وسواها من الجبهات
تتشابكُ الخيوط مع كلّ يوم إضافي تقطعه معارك الباب في ريف حلب الشرقي. التداخلات الفائقة الحساسيّة مستمرّة في التزايد سواء في ما يتعلق بخريطة السيطرة الميدانيّة الآخذة في الارتسام، أو على طاولات الساسة والأمنيين، أو وراء الكواليس.
تطوّرات عدّة شهدها ملف معقل «داعش» الآيل إلى السقوط خلال اليومين الماضيين: أنباء عن غارات «نوعيّة مكثفّة» نفّذتها طائرات أميركيّة أمس لدعم القوات التركيّة الغازية، جنود أتراك سقطوا في غارة روسيّة قالت موسكو إنها «اعتمدت على إحداثيات وفّرها الجيش التركي نفسه» الأمر الذي نفته أنقرة… اشتباك «عابر» بين الجيش السوري ومجموعات تابعة لـ«درع الفرات» قرب قرية أبو الزندين (غرب الباب). وليست مصادفةً أنّ التعاطي السوري والتركي مع اشتباك «أبو الزندين» لم يجنح نحو التصعيد: لا تصريحات، لا اتهامات، ولا تركيز على النبأ في وسائل الإعلام الرسميّة، فيما حرصت كل من موسكو وأنقرة على تطويق مقتل الجنود الأتراك بنيرانٍ روسيّة، وردّه إلى أخطاء «تنسيقيّة». اليومان الأخيران شهدا أيضاً عودة للحرارة على خط واشنطن – أنقرة، مع حرص الطرفين على الإشارة إلى معركة الباب، ووضعها على قدم المساواة مع معركة الرقة. العمليات العسكرية حول الباب لم تشهد أمس أي تطوّرات كبيرة. تقدّم «درع الفرات» واجه استعصاءً جديداً في المدينة، فيما أسفرت عمليات الجيش السوري عن تقدم جديد عبر سيطرته على قرية أبو طلطل ليحازي تادف الاستراتيجية. وخلافاً لما روّجت له مصادر «معارضة» عن تقدّم كبير لـ«درع الفرات» وسيطرة وشيكة على كامل المدينة، فالمؤكّد أنّ تقدّم تلك القوات يسير ببطء لا يتناسب مع حجم الحشود التي تزجّها أنقرة في المعارك. وحتى مساء أمس تقدّمت «درع الفرات» على المدخل الغربي للمدينة وسيطرت على مشفى الحكمة، وصالة «نصف الدنيا»، كما على مبنى سوق الهال الجديد، وسط اشتباكات وكرّ وفرّ في شارع زمزم. ومع اختلاف كثير من التفاصيل بين معركة الباب الراهنة، ومعركة شرق مدينة حلب التي طُويت صفحتُها بعد تعقيدات كثيرة، يبرز تشابه جوهري بين المعركتين مفادُه أن تعقيدَ كلّ منهما لا ينبع من حيثياتها العسكريّة بقدر ما ينبع من «التوافق» على ما بعدها.
ولا يبدو غريباً في ظل هذه المعطيات أن يستغرق حسم «ملف الباب» زمناً إضافيّاً، وأن يتداخل مع ملف محادثات جنيف التي اقترب ميعادها (ما لم يطرأ تأجيل جديد عليه). وليس جديداً أن تُستبق كل جولة سياسيّة مُعلنة بسعي من قبل مختلف الأطراف إلى تكريس واقع ميداني يوفّر رصيداً يمكن صرفه في الكباش السياسي والإعلامي. وضمن هذا السياق يجدر إدراج تطوّرات ميدانيّة مهمّة لا في نتائجها الآنيّة، بل في توقيت اندلاع شراراتها. وعلى رأس تلك التطورات تأتي مساعي المجموعات المسلّحة لإعادة تحريك جبهات في ريف اللاذقية، والسعي إلى إحداث خروقات فيها. وعلى نحو مماثل يبرز الزحف المستمر لـ«هيئة تحرير الشام/ هتش» («النصرة» وحلفاؤها) نحو بسط السيطرة على كل المناطق الخارجة عن سيطرة الجيش السوري في ريف حلب الغربي. وجاءت الكلمة الأولى لـ«قائد الهيئة» أبو جابر الشيخ قبل يومين لتكشف بعض ملامح توجّهاتها في المدى المنظور. وإضافة إلى حرص الشيخ على تأكيد مركزيّة مكوّنات «هتش» في مسار «الثورة» منذ حقبة خروج التظاهرات من المساجد، وسعيه إلى نسب الفضل في «كل الانتصارات» إلى «هتش»، شدّد المتحدّث على رفض المجاميع التي يمثّلها لكل عمليات الحوار والمؤتمرات والمسارات السياسيّة، كما لوّح بفتح مزيد من الجبهات وبـ«فك الحصار عن المحاصرين». ويبدو التفصيل الأخير لافتاً ومستغرباً في الوقت نفسه، إذ لا ترتبط مناطق نفوذ «هتش» المُعلنة بخطوط تماس مع مناطق خارجة عن سيطرة الجيش ومحاصرةٍ من قبله. ورغم أن من المُستبعد أن تكون الغوطة مقصودةً بكلام الشيخ (لأنها لا تُعتبر منطقة ثقلٍ لقواته)، غير أنّ صفة «الحصار» تكاد تقتصر عليها في الوقت الراهن. ولم تُحل «اليد الممدودة» التي لوّح الشيخ بها أمام بقية المجموعات بين «الهيئة» ومهاجمة مناطق خاضعة لـ«ثوّار الشام» في ريف حلب الغربي. ومن المرجّح أن الخطوة الأخيرة تأتي في سياق تمهيد «هتش» لإعادة تفعيل جبهة الريف الغربي منطلقاً لهجمات نحو مدينة حلب، وبتزامن مع «جنيف».
ووسط المعمعة الحاصلة في الريف الشرقي لحلب، تواردت خلال اليومين الماضيين أنباء عن مفاوضات قد تشكل مقدمة لتحقيق الدولة السورية اختراقاً شديد الأهميّة في الريف الشمالي لحلب، وهو اختراق سيكون حال حصوله كفيلاً بتعزيز موقف دمشق في أي مسار سياسي. وتداولت مصادر إعلاميّة أنباءً مفادها أنّ اتفاقاً قد عُقد بين الدولة السورية و«وحدات حماية الشعب الكرديّة» يتعلق بدخول مؤسسات الدولة السورية (بما فيها الجيش) إلى عدد من المناطق، على رأسها مدينة تل رفعت وبلدة منغ. غير أن الأنباء المذكورة افتقرت إلى الدقة على غير صعيد، أبرزها زجّ أسماء مناطق هي بطبيعة الحال تحت سيطرة الجيش السوري لا «الوحدات» (حردتنين، ماير، معرستة الخان). وفي ما يتعلّق بـ«المصالحة» في كل من تل رفعت ومنّغ، علمت «الأخبار» أنّ جوهر ما تمّ الاتفاق عليه حتى الآن يتعلّق بعائلات من أبناء المنطقتين، تضمن بموجب الاتفاق «تسوية أوضاع» أبنائها مع الدولة السورية. وتشير معلومات «الأخبار» إلى أن المساعي ما زالت مستمرّة لتطوير الاتفاق واشتماله على تفاصيل أكثر جوهريّة، مثل دخول مؤسسات الدولة السورية إلى المنطقتين اللتين تحظى كلّ منهما برمزيّة خاصة: تل رفعت بما مثلته خلال السنوات الماضية من رمزيّة في مسار الحرب السوريّة، ومنّغ التي كان سقوط مطارها العسكري مقدّمة لخروج الجيش السوري من معظم مناطق الريف الشمالي. ورغم أنّ الحديث عن عودة العلم السوري إلى سماء المنطقتين ما زال مرتبطاً بتطورات المفاوضات وكواليسها، غير أنّها في حال حدوثها ستجعل من منّغ أقرب نقطة (في الريف الحلبي) إلى الحدود التركيّة يرفرف فوقها العلم السوري منذ سنوات. ريزان حدّو «عضو مجلس سوريا الديمقراطيّة» أوضح لـ«الأخبار» أنّ «الحوار ما زال مستمرّاً، وهو جزء من الحوار بين الطرفين برعاية روسيّة، ويأتي نتيجة حتمية لوجود نقاط التقاء بين الحكومة السورية و«الوحدات»، أهمها تأكيد الجانبين على وحدة الأراضي السورية». المصدر أعرب عن أمله في «الوصول إلى اتفاق، خاصة أن الجيش السوري ووحدات الحماية هما قوتان رئيستان في محاربة الإرهاب، و لعل من أهم الأولويات أن تساهم هذه الأجواء الإيجابية في العمل على سد الثغرة في الشمال السوري وقطع أي اتصال بين الإرهابيين والحدود التركية التي تشكل الرئة التي تتنفس منها تلك الجماعات والتمهيد لإفشال مخطط شمال غرب الفرات من حلب إلى الباب إلى منبج فَجرابلس».
(الاخبار)