الأوراسيا الجديدة محمد نور الدين
حظيت المنطقة الممتدة بين قارتي آسيا وأوروبا بأهمية قصوى عبر التاريخ. هذه المنطقة التي عرفت في القرون الأخيرة وفقاً لنظريات جيوبوليتكية بـ «أوراسيا»، تشكل وحدة جغرافية لا يمكن فصل جناحيها الأوروبي عن الآسيوي. وكان يمكن لهذا المعيار أن ينطبق على أي تواصل جغرافي بين أي قارتين. لكن المفارقة أن جميع القارات الخمس منفصلة عن بعضها الآخر، إما بشكل كامل كما مع قارة أمريكا، أو بصورة شبه كاملة كما مع إفريقيا، أو بحواجز طبيعية مائية كما بين آسيا وإفريقيا. وحدهما قارتا أوروبا وآسيا تتصلان جغرافياً بشكل شامل.
ومنطقة أوراسيا لا تشمل كل أوروبا أو آسيا، بل أجزاء منهما المتلاصقة عند الحدود الجغرافية. وتكاد بالتالي تشكل قارة ضمن قارتين.
لكن التواصل الجغرافي ليس هو الذي يشكل وحده هذه الميزة، بل انطلقت أهمية هذه «القارة الجديدة» من وضع دولها الجيوبوليتكي.
تقع روسيا في القلب من هذا المصطلح الجيويوليتكي. فروسيا دولة كبيرة بل دولة – قارة تمتد على قارتي آسيا وأوروبا. وهي تعتبر قلب أوراسيا، وأي حديث عن أوراسيا بلا روسيا لا معنى له.
وتبعاً لذلك فإن الحدود السياسية لهذه الأورواسيا هي الأهم وتتحدد تبعا لتمدد، أو تقلص الحدود السياسية لروسيا. ويحظى ذلك بأهمية فائقة لروسيا. إذ إن روسيا هي بلد برّي إلى حد كبير رغم حدوده القطبية وفي البلطيق والبحر الأسود والمحيط الهادئ. لكن قياساً لحجمها فهي دولة برية بالمقارنة مع حدودها الجنوبية. لذا كان دائماً هناك همّان لروسيا، الأول مد حدودها جنوباً والوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، والثاني هو توسيع مجالها الحيوي الآمن سواء، جغرافياً أو سياسياً على قاعدة أنها من دون ذلك تبقى دولة منكفئة جغرافياً ومكشوفة لكل أنواع التهديدات. وقد عرفت روسيا هذه التهديدات مع نابليون بونابرت الذي وصل إلى موسكو ومع، أدولف هتلر الذي توغل عميقاً في روسيا ــ الاتحاد السوفييتي ــ خلال الحرب العالمية الثانية.
من هنا يمكن اعتبار الاتحاد السوفييتي واحدة من أهم الصيغ السياسية والجغرافية لهذه الأوراسيا التي بلغت معه ذروة وحدتها السياسية والجغرافية. إذ ضم الاتحاد السوفييتي، ومعه حلف وارسو، روسيا، وكل دول آسيا الوسطى والقوقاز، وكل دول شرق أوروبا فكان بذلك أكبر كيان سياسي وجغرافي عبر التاريخ.
لكن بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانسلاخ، أوروبا الشرقية عن الولاء لروسيا، فقد تراجعت روسيا إلى حدودها التقليدية في القرن التاسع عشر، وما قبله. ويمثل هذا، في خضم التنافس مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، خطراً كبيراً على الأمن القومي الروسي.
لم يتأخر الروس، في عهد فلاديمير بوتين، في وضع الخطط للعودة إلى وضع القوة الكبرى والقادرة على حماية نفسها والقيام بدور عالمي مواز للولايات المتحدة.
فكان الاعتماد على وسائل اقتصادية أولاً، ولا سيما شركة غازبروم. والثاني هو إعادة إحياء صيغ سياسية واقتصادية مثل رابطة الدول المستقلة التي تقع ضمن جمهوريات في آسيا الوسطى والقوقاز، وكانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق. وقد شكلت هذه الرابطة بداية استعادة نفوذ كان قد تقلص. ومن بعد ذلك كانت منظمة شنغهاي التي ضمت روسيا والصين وبعض الدول في آسيا الوسطى.
إلى هنا يمكن اعتبار ذلك أمراً طبيعياً ومنطقياً. لكن المفارقة أن مفهوم أوراسيا يمكن أن يكون قد طرأ تحول على مضمونه، بل فلسفته. ولم يعد مقتصراً على الشريط الشمالي الأوسط من آسيا. إذ إن آليات التكتل قد تغيرت. فبدلاً من أوروبا الشرقية كانت روسيا تنسج علاقات استراتيجية مع الصين فتقوّي جناحها الشرقي بعدما قُص جناحها في شرق أوروبا.
إلى ذلك انتقلت إيران من بلد محايد، وأحياناً معاد عبر التاريخ لروسيا، إلى حليف لها كما هو حاصل الآن، كما حليف للصين. ولكن المفارقة الأبرز أن تتحول سوريا إلى أحد أبرز أركان الأوراسيا الجديدة عبر ذلك التحالف الاستراتيجي مع روسيا وإقامة قواعد عسكرية برية وجوية في سوريا. وليس التدخل الروسي العسكري بهذا الحجم سوى دليل أكبر على أهمية سوريا في المعادلات الجديدة لروسيا.
مع الصين تمتد أوراسيا إلى بحر الصين والهادئ، ومع إيران تمتد إلى المحيط الهندي، ومع سوريا تمتد إلى البحر المتوسط، لنكون نحن أمام أوراسيا جديدة مختلفة المضمون والشكل والركائز. وفي حال نجحت روسيا في استعادة بعض دول أوروبا الشرقية، مثل بلغاريا وغيرها في البلقان، فإن أوراسيا الجديدة ستكون أكبر وأهم من أوراسيا القديمة، وستكون التوازنات العالمية أمام متغيرات مهمة جداً.
(الخليج)