هل يغتنم لبنان الفرصة النادرة للإصلاح الجِدّي؟ العميد د. أمين محمد حطيط
أما وقد بات السياسيون اللبنانيون امام طريق شبه مسدود في موضوع قانون الانتخاب، وبات الانقسام عميقاً بين فئات ثلاث اثنتان منها متناقضتان في المواقف والثالثة رمادية تتصرف بزئبقية فتكون مع هذا الطرف أو ذاك، حسب الظرف والضغوط التي تتلقاها، وبالتالي يهمّنا من عرض المشهد اللبناني انتخابياً المواقف القطبية المتناقضة، حيث نرى أن:
الفئة الأولى التي أقامت مجدها السياسي بشكل غير مشروع يبدأ بتزوير الإرادة الشعبية عبر قانون انتخاب يفصَّل على قياس كل مكوّن من مكوّنات هذه الفئة ويمنحها حجماً متضخماً بحقوق الآخرين ويُحرم شرائح واسعة من حقها في التمثيل النيابي، ولذلك تتمسّك بهذه الصيغة او تلك من قوانين الانتخاب التي تبقي حجمها منتفخاً متجاوزاً حجمها الطبيعي بأضعاف مضاعفة على حساب الآخرين الذي يشعرون بأن حقوقهم مغتصبة أو مصادرة بغير وجه حق.
أما الفئة الثانية فهي الفئة الواثقة من حجمها الشعبي وتريد الاحتكام للإرادة الشعبية بشكل حقيقي صحيح لا شبهة ولا تزوير فيه، وتصرّ على أن يتمثل كل مكوّن من مكوّنات المجتمع السياسي اللبناني بحجم يتناسب مع حجمه الشعبي الحقيقي من دون أن يحجب أحد أحداً أو أن يغتصب أحد حق أحد، وهي ترى وهي محقة في نظرتها أن في التمثيل العادل مصلحتين، فهو يعطي كل ذي حق حقه ويؤمن العدالة، ثم أنه يوفر فرصاً أعلى لإرساء الاستقرار الوطني العام بدءاً بالاستقرار الأمني.
والمسألة في لبنان اذن تختصر بأمر واحد مضمونه أن من يستفيد من التزوير لاغتصاب حقوق الغير متمسك بما ليس له، وأن المظلوم الذي انتزعت منه حقوقه كلياً أو جزئياً يرفض هذا الواقع ويطالب بالعدالة واستعادة المغتصب من الحقوق، وفي هذا التناقض تتلخّص القضية كلها، فكيف يكون الحل؟
لقد استفاد الفريق المغتصب من سيطرته على مرافق الدولة وتلاعب بالدستور والقوانين ونشر الفساد ونهب الدولة وتعطيل المؤسسات، مطمئناً الى ان أحداً لن يحاسبه في ما يقترف من جرائم. حيث إن الطبقة السياسية تلك حصنت نفسها بأكثر من حزام أمان يقيها «خطر الإصلاح والمحاسبة»، في الوقت الذي خضعت فيها الفئة الثانية مرغمة لهذا الواقع الظالم لأسباب مختلفة تتصل بوضع كل مكوّن من مكوناتها. فمنهم سكت حرصا على الامن والاستقرار ومنهم سكت لضعفه ومنهم سكت ليأسه، سكوتاً لم يكن يخرقه من وقت الى آخر الا بعض التظاهرات والاعتصامات التي كان الحاكم لا يأبه بها حجماً أو مدة، كما قال رئيس وزراء سابق وهو ينظر من مكتبه في السراي الحكومي إلى المعتصمين في ساحة رياض الصلح على بعد مئة متر منه: «اعتصموا وتظاهروا ولن يرفّ لي جفن»، مستخفاً بكل ما يقومون به، مطمئناً الى انه لو أنفق 11 مليار دولار من دون سند شرعي فإنه لن يحاسب.
اما اليوم فقد تغير الوضع بسبب عاملين إن لم نقل ثلاثة. أولها المتغير الإقليمي الدولي الذي برز بعد فشل المشروع العدواني الذي استهدف المنطقة عامة، ومحور المقاومة خاصة، وتأكيد أهمية هذا المحور وقوته في المعادلة الإقليمية على الأقل. ومن حسن الصدف أن الفريق الأول كله ينتمي الى المحور الخاسر في عدوانه، أما الثاني فيتمثل في وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية وهو قامة وطنية مشهود لها بصلابة الإرادة وطول النفس وقوة العزيمة، وقد التزم بأن يحقق العدالة مهما كلّف الأمر، ويبقى العنصر الثالث الذي يمكن اضافته هنا ويتمثل بحالة الوعي النخبوي والشعبي في الساحة اللبنانية، حيث تشكل لوبي وطني عابر للطوائف يطالب بعدالة التمثيل وإسقاط نهج التزوير والاحتكار والمصادرة للإرادة الشعبية.
أما الفريق الأول، فريق الاغتصاب والتزوير، فقد بدا حتى الآن محرجاً لأول مرة في تاريخه، ورغم ادعائه التمسك بالنص دستوراً وقانوناً أو وثيقة وفاق وطني ومطالبته بتطبيق هذه النصوص، فإن تمسكه يبدو شكلياً ومفضوحاً، لأنه يتمسك بالقشور ويهرب من الجوهر. وهو في قرارة نفسه يعلم ان تطبيق النصوص بدقة سيقيم العدالة، لذلك يعتمد سلوكاً مزدوجاً يقوم على المناداة بتطبيق النص ظاهراً. وهو يتهرّب منه وعلى التهديد بالعنف حقيقة حتى يمنع التغيير والإصلاح والاحتكام الى الشعب، ولم يكن مفاجئاً أن يلوح أحد اركان هذا الفريق او رأس الحربة فيه، بأمن الجبل والمصالحة فيه مخيّراً اللبنانيين بين اللا عدالة في قانون الانتخاب أو اللا أمن في البلاد.
أمام هذا الواقع نرى أن الفريق الثاني – فريق المطالبة بالعدالة الانتخابية والعدالة السياسية مطالب بالاستمرار في سعيه، وهو محكوم اليوم بالثبات وعدم التراجع عن مواقفه الصحيحة، لأن أي تراجع من قبله سيكون تشجيعاً للمغتصب وانصياعاً لفجوره من جهة، وخذلاناً للشعب المحتقن ودفعه للانفجار بوجه الجميع من جهة أخرى.
ومن حُسن حظ لبنان اليوم أن الفريق الثاني هذا قويّ بما فيه الكفاية وهي فرصة نادرة للبنان قد لا تتكرّر. إن لدى الفريق قوة مركّبة، حيث إنه يملك مثلث قوة ندر تحققه. مثلث يتشكل من المقاومة المنتصرة والرئيس القوي الساعي للعدالة والنخب الفكرية الوطنية العابرة للطوائف.
إن لبنان في ظل قوة فريق الإصلاح والعدالة هذا، امام فرصة تاريخية يجب أن تغتنم ولا يجوز، كما ليس من حق احد التفريط بها، فإذا كان الفريق المغتصب متشبثاً بما اغتصب فإن بيد رئيس الجمهورية منع إجراء الانتخاب وبيده منع التمديد للمجلس القائم من خلال صلاحيته كرئيس جمهورية يملك حق توقيع المراسيم وبصفته زعيماً لتكتل سياسي مهم في مجلس النواب والحكومة يُضاف الى قوة تحالفاته ويستطيع الرئيس أيضاً أن يحصّن خياراته باللجوء إلى الاستفتاء الشعبي الذي لم ينص عليه الدستور سلباً او إيجاباً، والتالي يمكن اللجوء إليه لتكون نتائجه ذات أثر أدبي إن لم يكن ذا مفعول قانوني وصفعة او صدمة شعبية وطنية توجّه للفريق المغتصب.
أما المقاومة فإن جمهورها يطالبها بالتمسك بخيارها المعلن والصريح، ويرغب بأن تؤكد أنها هي مَن يريد فعلاً العبور بالوطن الى الدولة العادلة وأن تفضح زيف ادعاء المبطلين فتقطع في ذلك الطريق على مقولة إن «المقاومة تعرف كيف تنتصر في الميدان ولا تعرف كيف تصرف الانتصار في السياسة». وجمهور المقاومة وداعموها ومؤيّدوها مغتبطون اليوم بمواقفها وبتمسّكها النهائي بنظام انتخابي قائم على النسبية التي تؤمن عدالة التمثيل. الكل موقن بأن الإصلاح الجدي لبناء الدولة القوية يبدأ بقانون انتخاب وطني عادل.
يبقى على النخب الفكرية الوطنية اللبنانية واجب الاستمرار في ما تقوم به، ودورها هام جداً لإبراز وطنية المطلب وتسفيه طائفية التحرك. كما ودورها مهم في دعم رئيس الجمهورية صاحب القَسَم والقلَم والتوقيع الرسمي ودعم تيار المقاومة صاحب القوة في الميدان.
وبما أن المكونات الثلاثة لجبهة عدالة التمثيل متمسكة اليوم بالنسبية على أساس الدائرة الوطنية الواحدة او الدوائر الكبيرة الموسّعة، وتجمعهم وحدة الهدف عدالة التمثيل ووحدة الخيار النسبية فإنهم مدعوون للتكامل وتنسيق المواقف والتساند المتبادل حتى الوصول إلى المبتغى من دون أن تضيع الفرصة النادرة من أيديهم ويُطبق اليأس والإحباط على أكثرية الشعب اللبناني. ومن غير الجائز مطلقاً أن يهزم فريق الفجور والاغتصاب، فريق الإصلاح والعدالة الممسك بمثلث القوة الوطنية المركبة المميّزة.
(البناء)