معارك الشرق السوري أمام امتحان «التفاهمات الحذرة» في الباب صهيب عنجريني
برغم أهميتها الاستراتيجية الكبيرة في ما يتعلّق بحلب، غير أنّ معركة الباب اكتسبت في خلال الشهر الأخير أهميّة إضافيّة تتجاوز سابقتها بأشواط. المدينة التي باتت آخر معاقل «داعش» الكبرى في حلب تختبر نوعاً من «التفاهمات الحذرة» بين دمشق وأنقرة، بدور روسي أساسي وحضور إيراني مؤثّر. وإذا ما كتبت لمعركة الباب نهاية ترضى عنها الأطراف المذكورة، فقد يكون مستقبل المعارك ضد تنظيم «داعش» من الرقة إلى دير الزور على موعد أمام مقاربة مختلفةٍ لكلّ ما سبق
منطقة الباب مرشّحةٌ لتكون منعطفاً فارقاً في مسار الحرب على «داعش» في المناطق الشرقيّة بأكملها. التنظيم المتطرّف الذي مثّل منذ وقت طويل العنوان الوحيد المتوافَق عليه بين كل اللاعبين في المشهد السوري (ولو شكليّاً) يختبر اليوم مفاعيل تحوّل التوافق الإعلامي إلى تفاهمات عمليّة على الأرض، تجمع المتناقضين إلى «مائدة دسمة» عنوانُها محاربة الإرهاب.
ويبدو لافتاً التزامن بين تضييق الخناق على المعقل الأبرز للتنظيم في الريف الحلبي، وتعزيز التفاهمات «الأمنيّة» التي يختبرها عدد من أشد الدول فاعلية في الملف السوري بصورة تبدو غير مسبوقة. ورغم أن الحديث عن تنسيق أمني سوري ــ تركي عبر موسكو ليس جديداً، غير أنّ السيناريو الذي تسير وفقه معارك الباب الأخيرة تشي بملامح نقلة نوعيّة على هذا الصعيد. نقلة يدعمها انضمام طهران إلى ثنائية روسيا – تركيّا كمثلث «ضامنٍ» لتفاهمات يُشتغل عليها بعناية خلف الكواليس وتشكّل «أستانة» منصّة صالحة لتظهير جزء منها. مسارعة الأردن للانضمام إلى هذه المنصّة تبدو في حد ذاتها مؤشّراً مهمّاً بالنظر إلى أنّ المقاربة الأردنية للملف السوري لا تُعبّر عادةً عن رؤية أردنية خالصة بقدر ما تعكس نظرة عواصم عالميّة كبرى، على رأسها لندن وواشنطن التي زارها الملك الأردني أخيراً.
وإذا كانت الانعكاسات المتوخّاة على أرض الواقع لانضمام عمّان إلى «الحفلة» مقتصرةً في المرحلة الأولى على الجبهة السورية الجنوبيّة، فمن الواجب الانتباه إلى أنّ للأردنيين دوراً لا يمكن إغفاله في ملف المنطقة الشرقيّة، ولا سيّما ما يتعلّق بالقطاع الجنوبي للحدود السورية العراقيّة. ومن المسلّم به أنّ فُرص نجاح أي تفاهمات (معلنة أو سريّة) تتناسب طرداً مع قبول دمشق لها، ولا سيّما أنّ هذا القبول يعني ضمنيّاً قبول طهران (الحليف الأقرب). ولعب تحوّل الأخيرة إلى ضلع يكمل مثلث الضامنين في أستانة دوراً فاعلاً في معالجة واحد من أبرز معوّقات التوافق السوري – التركي على كثير من الملفات الميدانية الحساسة، وهو انعدام الثقة بثبات أي اتفاق غير مُعلن بين موسكو وأنقرة في شأن عمليّات «درع الفرات» (راجع «الأخبار»، العدد 3054). وتشكّل معركة الباب فرصة لقطف أولى ثمار هذه التغيرات، ويعكس التعاطي الميداني معها نجاحاً لآليّة «التنسيق الحذر» بين قوّات «درع الفرات» من جهة، وقوّات الجيش السوري وحلفائه من جهة أخرى. وبرغم تعثّر «درع الفرات» في تحقيق حسم جوهري لمعارك بزاعة (بوابة الباب الشرقيّة)، لكنّ الثابت أنّ احتدام المعارك على هذا المحور انعكس إيجاباً على تقدّم الجيش السوري عبر المحور الجنوبي، من خلال حرمان «داعش» فرص التفرّغ لمواجهة الجيش. وأفرزت التطورات الميدانية أمس تقدّماً إضافيّاً للجيش على هذا المحور، عبر سيطرته على مزيد من الأراضي شمال بلدة العويشيّة، مضيّقاً الخناق أكثر على تادف (بوابة الباب الجنوبيّة). وحتى الآن، تتجلى أوضح انعكاسات «التنسيق الحذر» حول الباب في حقيقة أن مناطق سيطرة التنظيم المتطرف على وشك دخول حصارٍ مُحكم يتشارك الطرفان في فرضه (رغم عدم تصريحهما بذلك). يتحفّظ مصدر ميداني سوري عن التعليق على هذا التفصيل، ويقول المصدر لـ«الأخبار» إنّ «الجيش ماضٍ في عمليّاته على كل المحاور للتصدي للإرهاب، ومعارك تحرير الباب تأتي في هذا السياق بالدرجة الأولى».
بدوره، يؤكد مصدر سوري رفيع المستوى أنّ «الثوابت السوريّة واضحة على كل الصّعد، السياسية والعسكريّة». يقول المصدر لـ«الأخبار» إنّ «اجتثاث الإرهاب يأتي على رأس هذه الثوابت، هذا ما قام به الجيش في عمليات كثيرة سابقة، وهذا ما يقوم به في معركة الباب».
لا يقدّم المصدر تأكيداً لوجود تنسيق في عملية الباب، لكنه في الوقت نفسه لا ينفيه بصورة قاطعة، ويحرص على الإشارة إلى أنّ «المصالح المشتركة أحياناً تُشكّل مدخلاً محوريّاً لتحولات جوهرية في كثير من الملفّات». كذلك، يحرص المصدر على تأكيد توصيف العاصمة السورية لـ«درع الفرات» بالقول: «هي عملية غزو غير شرعية للأراضي السورية». تفصيل جوهري مهمّ أيضاً يشير إليه المصدر نفسه، مفاده أنّ «أهم ما يمكن استخلاصه من التغيرات المتسارعة منذ معركة حلب على وجه الخصوص، أنّ رسوخ العلاقة بين دمشق وحلفائها أثبت نجاعته، والطبيعي أن تكون أولى ثمار هذه التغيرات حرصنا على تحالفاتنا التي لم تكن وليدة الأمس، وليس من الذكاء في شيء الرهان على أي نتيجة معاكسة». كلام المصدر جاء في سياق ردّ على سؤال طرحته «الأخبار» عمّا يُثار في الفترة الأخيرة من أن قبول دمشق بالابتعاد عن طهران سيكون كفيلاً بمدّ جسور بين العاصمة السورية والإدارة الأميركية الجديدة، وبالتالي سيسهم في حسم الموقف الأميركي من الملف السوري بأكمله. ومن نافلة القول أنّ كل التطورات السورية في خلال الشهرين الأخيرين قد أبصرت النور في معزل عن إسهام أميركي فاعل، ما يعني أنّها تبقى مفتوحة على احتمالات كثيرة في انتظار خطوات أميركية عمليّة تعزّز أو تقوّض ما أُنجز حتى الآن.
وإذا كان تأثير الأتراك في المجموعات المسلحة السورية كفيلاً بتوجيه بوصلتها إلى حد كبير، غير أنّ تلك البوصلة لا يمكنها أن تستقر من دون مباركة أميركية في الدرجة الأولى، بل إنّ موقف أنقرة في حد ذاته يبقى رهيناً لمؤشرات واشنطن إلى حد كبير. وتنبغي الإشارة إلى أنّ ملفّ «الباب» لا يُعَدّ أولوية أميركيّة حيويّة، خلافاً لملفّين أكبر وأشدّ تعقيداً، هما ملفّ الرقّة وملف دير الزور.
وتبرز الولايات المتحدة بوصفها رأس الحربة في ما يتعلّق بمعركة الرقّة عبر زعامتها الثابتة لـ«التحالف الدولي» الذي تُعَدّ «قوّات سوريا الديموقراطيّة» ذراعه البريّة الأساسيّة. وتبدو لافتةً في هذا السياق عودة بعض التنظيمات المسلّحة المحسوبة على الأميركيين إلى دائرة الضوء الإعلامي في الفترة الأخيرة، وعلى رأسها «قوّات النخبة» التي يتزعمها رئيس «الائتلاف المعارض» الأسبق أحمد الجربا (القريب من السعوديين).
ورغم عدم استناد «النخبة» إلى منجز ميداني فعلي، غير أنّ بعض المصادر بدأت الترويج لدور محتمل لها في معارك الرقة، كبديلٍ أو رديف لـ«قسد» يُحدث نوعاً من «التوازن الديموغرافي» داخلها. وبفعل الهيمنة الكرديّة عليها ما زالت «قسد» تُشكّل هاجساً أوحدَ بالنسبة إلى أنقرة، وعنواناً أساسيّاً لاختلاف الأجندتين الأميركية والتركية في الملف السوري. وإذا كانت قوّات «قسد» قد اكتفت في الفترة الأخيرة بمتابعة تطورات معركة الباب من موقف المتفرّج رغم الأهمية الكبرى للمنطقة في حسابات «الكانتونات الكرديّة»، فإن الوضع يختلف جذريّاً إذا ما قُيّض لتفاهمات «دمشق – موسكو – أنقرة» الحذرة أن تتجه في مرحلة لاحقة شرقاً نحو الرقّة. كذلك تأتي منطقة منبج (واسطة العقد بين الباب والرقة، والخاضعة لسيطرة «قسد») امتحاناً بارزاً في موازين شمال سوريا وشرقها، ويبدو طبيعياً أن يستشعر الأكراد خطراً من الخطوة التي قد تلي الباب في حال نجاح «التفاهمات الحذرة». وثمة منطقة أخرى مهمّة في موازين الأكراد، هي منطقة عفرين (ريف حلب الشمالي)، ومنطقة «الشهباء» المتصلة بها، بدءاً من كفرنايا وصولاً إلى تل رفعت ومارع (غرباً) وتخوم أعزاز شمالاً، وهي مناطق كانت «قسد» قد انتزعتها من يد تنظيم «داعش» في مراحل سابقة. وتشهد «الشهباء» مناوشات مستمرة بين القوات التركيّة الغازية، وقوات «قسد» وحلفائها، فيما تؤكد مصادر كرديّة لـ«الأخبار» أنّ «حجم القوات التركية المستمرة في التدفق عبر معبر باب السلامة (شمال أعزاز) يوحي بنيات تركيّة لتصعيد كبير يأتي في سياق عدوانها المستمر على الأراضي السورية». وفضلاً عن المخاوف الميدانيّة التي يستشعرها الأكراد، يبرز خوف تاريخي من تحوّلهم إلى ميدان لتفاهم سوري تركي واضح وعريض، يحيلُ الملف الكردي جسراً تتلاقى فوقه العاصمتان، رغم كل الخلافات بينهما.
إلا أنّ أي تحول من هذا النوع سيكون بدوره عرضةً لتأثيرات توجّه الإدارة الأميركية الجديدة في الملف السوري بأكمله، وملف الأكراد على وجه الخصوص.
(الاخبار)