ترامب وأولى قراراته الرئاسية – منير شفيق
جاءت أولى القرارات التي اتخذها دونالد ترامب خلال عشرة الأيام التي تلت توليه رئاسة الولايات المتحدة، ترجمة لمواقف ووعود سبق وأعلنها في أثناء حملته الانتخابية.
الكل يذكر أن المواقف والوعود التي أطلقها ترامب خلال حملته الإنتخابية استُقبِلت باندهاش شديد، وقد حُكِمَ عليه بسببها باعتباره جاهلا في السياسة الدولية، وليس له من ورائها غير الحصول على شعبوية فجّة، ولا تخلو حتى من حماقة. ولكن ما كان يمنع من الوصول إلى استنتاجات قاطعة، بناء على تلك المواقف والوعود، غلبة الظن بأن مرشح الرئاسة في حملته الإنتخابية هو غيره بعد تحوّله إلى رئيس للولايات المتحدة. وذلك باعتبارها دولة مؤسسات، وليست دولة حاكم فرد يُطبّق ما يُفكر به، ولو كان مخالفا للمؤسسة. الأمر الذي يفترض أن ينطبق على دونالد ترامب كما انطبق على غيره من مرشحين، وعدوا بأشياء كثيرة في أثناء حملتهم الإنتخابية ونسوها بعد أن أصبحوا رؤساء.
على أن ترامب كان منذ البداية خارجا على اللعبة التقليدية في اختيار المرشحين للرئاسة من نمط معيّن (تحت السيطرة)، ينسجم أولا إما مع الحزب الجمهوري أو الديمقراطي الذي رشحه باسمه، وينسجم ثانيا مع المؤسسة الأمريكية. فقد ظهرت له معارضة قويّة من الحزبين، وعدم رضا عن ترشحه، أو نجاحه في الانتخابات، وتبدّت بقوّة أكبر من جانب المؤسسة، ولا سيما صدامه مع الـ “سي.آي.إيه“.
كما وجه بموقف إعلامي شبه إجماعي ضدّه. ولهذا كان فوزه مخالفا للتقاليد الأمريكية، ومفاجئا لأغلب التوقعات والاستطلاعات التي كانت ترجح فوز منافسته هيلاري كلنتون، وبدرجة عالية من الطمأنينة.
طبعاً سرعان ما فُسّر سبب نجاحه، بالرغم من كل هذا الشذوذ والخروج على ما ساد في الولايات المتحدة على مدى قرنين وأكثر. فقد جاء خطابه من ناحية أساسية موجهاً لفئات اجتماعية ذات وزن من بين الناخبين الأمريكيين. فضلاً عن تحشدها داخل الولايات التي أمكن لممثليها أن يرجحوا انتخابه على هيلاري كلنتون التي نالت من أصوات الناخبين أكثر منه. وقد أفاد من النظام الانتخابي الأمريكي الذي يعطي لممثلي الولايات أرجحية في انتخاب رئيس على آخر فاقه بعدد الأصوات.
هذه الفئات تنتسب لجمهور واسع من “الواسبس” (البيض البروتستانت الأنكلو-ساكسون الأمريكيون). والواسبس كما هو معروف مثّلوا، دائما، العمود الفقري للدولة الأمريكية، ومنها جاء أغلب الرؤساء ما عدا كنيدي الذي كان منهم ولكنه كاثوليك، وعدا أوباما بسبب لونه وأصول منبته.
هذا الجمهور من الواسبس أحسّ منذ عدّة سنوات أنه بدأ يُهّمَش لحساب الأقليات وبسبب تحكم النيو-ليبرالية، وإن الأمور مع العولمة الثقافية لم تعد تجري على ما يرام. وهنا اتجه دونالد ترامب إلى هذا الجمهور، بل هو منه من حيث مشاعره الأيديولوجية والثقافية والغضب من التهميش، ولو النسبي، الذي أخذ يلحق بهذه الفئات من الواسبس، ذات التواجد الأوسع في عدد من الولايات الوسطى والجنوبية.
على أن مشكلة ترامب مع المؤسسة والحزبين الجمهوري والديمقراطي لم تقتصر على خوض معركة داخلية ضد التهميش بخلفياتها النيو-ليبرالية-العولمية سواء أكان على مستويات عدّة ثقافية وايديولوجية أم على مستوى الحريّات والتخفيف من التمييز العرقي والديني والإثني، وإنما امتد صراعه على مستوى السياسة الدولية والمواقف من المسلمين بخاصة، كما بالنسبة إلى العلاقات التجارية والاقتصادية بمجموعات من الدول مع أمريكا. وهذه الأخيرة تمسّ أقرب حلفاء أمريكا مثل كندا واليابان وأوروبا. هذا وامتدت تصريحاته للمساس حتى بحلف الناتو. أي راحت مروحته تضرب أول ما تضرب بالحلفاء وبالناس العاديين الأبرياء من المسلمين.
كان يفترض بدونالد ترامب أن ينكبّ مع الفريق الذي اختاره، ليكون إلى جانبه، على صوْغ الاستراتيجية الدولية لأمريكا. وذلك بهدف تصحيح موازين القوى التي اختلت في العقدين الأخيرين في غير مصلحة الهيمنة الإمبريالية الأمريكية على العالم.
وهذا هو وحده الذي يستطيع أن يترجم شعار ترامب: “أمريكا أولا” أو إعادة أمريكا لتلعب دور المسيطر على النظام الدولي الذي تشكل اليوم على أساس تعدّد القطبية من دون نظام لتعدّد القطبية. وبكلمة، ليعرف كل مكانه.
وكان على هذه الاستراتيجية، كما العادة سابقا، أن تحقق إجماعا داخليا في ما بين الحزبين كما بين الرئيس والمؤسسة. وكان لا بد لها لتحقق شعار “أمريكا أولا” أو “أمريكا قائدة النظام العالمي”، من أن تعمل على ذلك في زمن قد يمتد خمسة عشر عاماً، أو عشرين عاما. لأن التدهور الذي مُنِيَ به النفوذ الأمريكي، أو الدور الأمريكي العالمي، كما تجسّد في أواخر عهد جورج دبليو بوش وفي عهدَيْ أوباما، لم يعد بالمقدور مواجهته إلاّ خلال عقد أو عقدين من السنين. هذا إذا كان من الممكن لدولة أن تعود إلى القمة بعد أن أخذت بالانحدار.
حتى الآن لم تتحدد تلك الاستراتيجية. وربما يكون السبب ما حدث من انقسام داخلي أمريكي ومن تصدّع داخلي راح يمسّ البنية نفسها، وربما بسبب فوات الأوان بعد أن اشتد ساعد روسيا باعتبارها دولة كبرى أصبحت منافساً سياسيا وعسكريا لأمريكا (في عدد من النقاط الساخنة في العالم).
وكذلك بعد أن أصبحت الصين الدولة رقم 2 في العالم بعد أمريكا من حيث قوّتها الاقتصادية كما قفزت قفزات واسعة عسكريا وتكنولوجيا. فضلا عن الهند وبروز عدد من الدول الإقليمية الكبيرة وحركات شعبية لا يسهل إعادتها إلى بيت الطاعة أو الحصار. هذا وربما بسبب عقلية ترامب نفسه والتي قد تحول دون العمل الجاد لصوْغ استراتيجية إنقاذية جديدة، فيما ذهب في أثناء حملته الانتخابية إلى تناول عدد من القضايا تناولا انتقائيا وعشوائيا. وهذا التناول يعتبر دليلا على المعوّق الترامبي يحول دون صوْغ استراتيجية قويّة ومتماسكة. طبعا هذا في مصلحة شعوب العالم في نهاية المطاف.
هذا ويكفي أن يلحظ، بداية، ما أخذت تثيره هذه القرارات من حملات داخلية ودولية واسعة ضدّه، وصلت إلى حد انتقاد ألمانيا وكندا وفرنسا وهيئة الأمم لبعض قراراته.
ولعل مثلاً على ذلك: قراره بمنع مواطني سبع دول هي إيران والعراق وليبيا والصومال والسودان وسورية واليمن من دخول الولايات المتحدة بمن فيهم حَمَلة البطاقة الخضراء التي تتيح لهم الإقامة والعمل في الولايات المتحدة وتؤهل لنيل الجنسية.
فهذا القرار يدل على ارتجالية وعدم تبصّر بما سيترتب عليه من نقد سياساته وعزلة له، وقد يدفع المعنيين أو بعضهم لمعاملته بالمثل كما فعلت إيران بما سيعود على الولايات المتحدة بالخسارة وإذا أخذنا ما ادعاه في إصدار هذا القرار باعتباره جزءا من الحرب على الإرهاب أو تجنيب الولايات المتحدة العمليات الإرهابية فسنجد أنفسنا أمام جهالة تضرب الناس العاديين وليس له علاقة بمواجهة الإرهاب ولا بمواجهة المنافسين الحقيقيين لأمريكا.
ثم يأتي قرار بناء الجدار بين الولايات المتحدة والمكسيك ليفتح صراعا مع دولة صديقة وحليفة، ويلقي بقفاز الاستفزاز في وجه الملايين من الأمريكيين من الأصول المكسيكية والأمريكية اللاتينية. والأعجب أنه حاول تسويقه من خلال تشبيهه بالجدار الذي بناه الكيان الصهيوني وقد استهدف فيما استهدف مصادرة أراضٍ واسعة والتحكم بالمياه الجوفية. ومن ثم يكون هذا التبرير في غير مكانه ويدل على جهل فاضح بموضوع الجدار المقام على الأرض الفلسطينية وقد أصدرت المحكمة الدولية قرارا بلا شرعيته وضرورة هدمه.
بكلمة يبدو ترامب إذا ما سار على هذا النهج الذي اختطه خلال عشرة الأيام الأولى لعهده بأنه ماضٍ سريعاً إلى الفشل، وآخذ معه الولايات المتحدة إلى العزلة والهزائم دوليا، وإلى الانقسامات العميقة داخليا.
وبالمناسبة لو أن ترامب مع قراراته الأولى تسرّع ونقل السفارة الأمريكية للقدس لواجه الشعب الفلسطيني انفجار انتفاضة شعبية واسعة مؤيّدة من العرب والمسلمين وأحرار العالم، ولكان انطبق عليه المثل “أول غزواته كسر عصاته“.